غدا الفساد قصّة مألوفة لأربعين مليون عراقي في بلد غني بثرواتهِ، ولكنه كسيح في أنظمته، ويعد في المرتبة 171 في مؤشر مدركات الفساد؛ إذ يرتبط بمحاسبة ضعيفة بشكل مزمن وحكم غامض. وتختلف تقديرات إجمالي الأموال المفقودة، وتصل إلى 300 مليار دولار، فضلا عن مئات المليارات التي صرفت على المشروعات الوهمية لعدّة وزارات، مموّلة من الفواتير المزورة المقدّمة إلى البنك المركزي، ولم تتوقف مزادات العملة على الرغم من أنها قتلت العراق. تُرى، ما هي الخطوات الجادة والحقيقية التي اتخذتها الحكومة الحالية في القضاء على الفساد، كما وعدت العراقيين بذلك؟
إنه فساد طبقةٍ سياسيّة حاكمة، وإدارات ومؤسسات، في نهب منظّم للمال العام منذ 16 عامًا. ويقتنع أغلب العراقيين باستحالة تحسن الأوضاع، بعد فقدان الأمل من مسؤولين غير مؤهلين للحكم أبداً، وقد أمنوا العقاب. واقتنع الجميع بعدم وجود حلول للكارثة، فالجميع فاسدون؛ فالفساد كالتنين اجتاح العراق من كلّ الاتجاهات، بحيث وصمت هيئة ما تسمى النزاهة نفسها بالبشاعة، وكان الفاسدون الكبار وراء استشراء “داعش” الذي عبث بالعراقيين قتلاً وتشريداً. وأمسى الفساد ثقافةً مستحكمةً عند العراقيين، بفعل هيمنة مافيات سياسّية جائرة، احتكرت الرئاسات الثلاث، العليا والتشريعية والتنفيذية منذ 2005، وغدت القضائية العوبة بالأيدي ، فضلاً عن قوى غير رسمية عابثة، وإن مسؤولي لجان حكومية وبرلمانية يهرّجون بالإصلاح، ولكنهم غرقى في الفساد، فهم يُظهرون عكس ما يبطنون. ولم يزل كبارهم، منذ 15 عاما، كالتماسيح يتلاعبون بمليارات الدولارات، من دون حسيب أو رقيب.
لم يتمكّن العراق من الوفاء بتعهداته أمام العالم في القضاء على الفساد، أو الإيفاء بتعهّدات بناء الخدمات ومحطات الطاقة في السنوات المنصرمة. ولم تخلق خطورة الأزمة أية حسابات تهزّ وجدان المسؤولين الذين قادوا ظاهرة الفساد، ما جعل العراق يُصنّف باستمرار واحدةً من أتعس خمس دول، هي الأكثر فسادًا في العالم. كان كبار المسؤولين السبب في سرقة ثروات البلاد من المال العام. وهناك عصابات ومافيات، تحرّكها رؤوس معينّة، تشكل فايروسات قاتلة ضدّ كلّ من يفشي أسرار الظاهرة التي باتت مفضوحةً لدى الجميع، ولم يستطع حتى رجال الدين والمراجع الكبار فعل شيء، وهم يدركون غرق العراق في الكبائر والآثام، ولكنهم لم يدينوا أحداً أبداً، ولم يحرّضوا على الثورة، خوفاً على النظام وهويته ومصالحه، وهم يعلمون حجم الجريمة، ويدركون فشل العملية السياسية برمتها، ما دامت هناك مليشيات وعصابات فساد منظمة تدير البلاد الفاسدة.
وصل الغضب الشعبي إلى درجة الخطورة، بسبب أزمة الرواتب التي ضربت القطاع العام العراقي المتضخم. وكانت الحكومة تنفق أكثر من ثلاثة مليارات دولار على الأجور، وهناك إنفاقات خفية ورواتب خاصة ورواتب فضائيين (أسماء وهمية)، فضلا عن رواتب تصرف لأناس تحت أغطية مجاهدين سابقين ومستشارين، وهناك من يستلم أكثر من راتب.. إلخ. العدالة معدومة تماماَ بين العراقيين جرّاء سياسات التمايز، وتسييس الوزارات ونظام المحاصصة المختل عقلياً. وهناك السطو مثل الممتلكات الكبيرة الخاصة والعامة، وغموض ما يحدث، إذ تجهل المعلومات عن الأصول السرية.
ومن خلال تبادل المعلومات مع منظماتٍ، مثل مبادرة استعادة الأصول المسروقة التابعة للبنك المركزي، يمكن للمسؤولين العراقيين البدء في تطوير صورة أوسع للأماكن التي يتم فيها إخفاء الأصول. وحتى الآن، هناك صعوبة في استعادة الأصول المسروقة الكبيرة، ليس في تجربة العراق وحسب، بل في تجارب دول أخرى، والتي تختلف عن تجربة العراق المتدنية، إذ ليس مهمّاً استرداد الأصول المسروقة، بل الأهم كيفية الحفاظ عليها، وحمايتها من سرقتها ثانية.
باختصار، الفساد يعني ممارسة الحصول على السلطة أو النفوذ أو المكاسب الشخصية الأخرى، بوسائل غير مشروعة، غالباً على حساب الآخرين. الفساد ميزة غير ربحية، أو ربح أو كسب للظلم من خلال إساءة استخدام السلطة والتحايل عليها. ولا ينحصر الفساد السياسي بشخص واحد، بل هو حالة عامة، وثقافة مسيطرة تمثلها جماعات وأحزاب وشرائح وتيارات وشركات ومؤسسات ووزارات وإدارات .. إلخ غارقة في الفساد.
أقصر الطرق لتدمير الفساد في كل من النسيج الاجتماعي والمؤسسي للبلد الالتفات إلى خيارات الإصلاح المفتوحة أمام الحكومات، للحد من الفساد وصدّ آثاره البشعة. إننا نوصي باستراتيجية ذات شقين: المكافأة والعقاب قوة دافعة للإصلاحات. ولمّا كان العراق حالةً خاصة ونادرة الحصول، فإن معالجة الفساد فيه ستكون خاصة، في ظل أي نظام سياسي يحكم الدولة والمجتمع، ففي غياب الدولة وضياعها اليوم، تمزق المجتمع أشلاء، وطغت فيه كل السلبيات. هنا استراتيجيات مقترحة على العالم ، يمكن تنفيذها على مراحل تحت اشراف دولي :
أولا، تمكين الدولة من استعادة هيبتها وهيمنتها بتنظيف مؤسسات الحكومة من كل الفاسدين وضعاف النفوس وعديمي الأخلاق وناقصي الكفاءة. ينبغي إجراء تحقيقات قضائية لكل المسؤولين الحكوميين المدانين ومعاقبتهم في ظل تشريع قانون نشر الفضائح والعار. وتشريع قوانين تضبط أجهزة الخدمة المدنية، ورفع مستواها بالحوافز والدوافع في كلّ المؤسسات، وفحص كل مؤهلات موظفي الدولة، بإشاعة الشفافية والانفتاح والدقة والأمانة في الإنفاق الحكومي، وضبط الائتمانات والعقود والضرائب والذكاء في إدارة الموارد العامة وتوظيف المساعدات الأجنبية مع ضبط ثروات البلاد بما فيها انابيب النفط .
ثالثا، تنزيه البرلمان باتباع استراتيجية التشريعات، وقطع الروتين المألوف، وتحريم التراخيص، وتنزيه القضاء، وتتبع الشفافية بسلوك “النهج الأكثر وضوحًا، ويقوم ببساطة بتطوير القوانين والبرامج التي توّلد الفساد”. من أجل القضاء على التشوهات والتزوير في المجتمع كله. ويكمن التحدي في إيجاد ثقافة نقدية تعّبر عن الواقع، فضلا عن بذل جهود متجدّدة ومنسقة دوليًا لبناء القدرات. وتوفير الخدمات المدنية.. إلخ. ولم تحقق عائدات النفط العراقي التي وصلت إلى 700 مليار دولار أكثر من ذلك بكثير، من دون أي شعور بالخجل.
رابعا، اتباع نهج الأمن المالي الصارم، وتنفيذ أكثر قوة لقوانين مكافحة الفساد والتجريم ، قياساً إلى اتفاقية مكافحة الرشوة في منظمة التعاون والتنمية. سيتعين على الحكومات أن تكون أكثر نشاطاً في الحد من التضليل وازدواجية المعايير، وتحريم الرشاوى والعمولات والسمسرة والابتزاز والعلاقات الخاصة الوصولية، بما فيها المحسوبيات والمنسوبيات والحسابات الطائفية والجهوية والعشائرية والمصالح الخاصة، وينبغي تجريم النهب للمال العام بكل أصنافه، العينية والمادية والعقارية.
خامسا، الفلسفة الأساسية في القضاء على الفساد بواسطة تغيير الحوافز، وإغلاق الثغرات والقضاء على القواعد الخاطئة التي تشجع السلوك الفاسد، مع تشجيع الزراعة والصناعة. ولكن من المرجّح أن يكون النهج الذي يركز فقط على تغيير القواعد والحوافز، المصحوبة بعقوبات صارمة على نحوٍ ملائم لانتهاك القواعد أكثر فعالية، كونها مدعومةً بجهودٍ لدعم الأساس الأخلاقي والسلوك الإنساني لوأد الفساد، من أجل بناء مستقبل زاهر لبلدٍ نظيف من كلّ الأوبئة والامراض.
نشرت في العربي الجديد / لندن في 2 مارس / آذار 2019 ، ويعاد نشرها على الموقع الرسمي للدكتور سيار الجميل