الرئيسية / الرئيسية / استيزار حكومة عراقية جديدة

استيزار حكومة عراقية جديدة

الوزير، في قاموس بلاكويل للعلوم السياسية، هو “الرئيس السياسي لإدارة مؤسّسة حكومية كبرى هي الوزارة”. وهناك وزراء أعلى Senior  لصنع القرارات، ووزراء أدنى Junior لإدارة الوزارات، بأساليبٍ سليمةٍ وذكيةٍ ونزيهة، ضمنَ هيئةٍ دعيت في بريطانيا بالمجلس (Cabinet) التي يدعوها العراقيون اليوم بـ “الكابينة”، واتّخذ “المصطلح” في الولايات المتحدة الأميركية مفهوم الإداري أكثر منه سياسياً، ليُسمّى الوزير سكرتيراً، ويجتمع أقلّ عدد من الوزراء في أكبر دولةٍ، في حين يكثر عدد الوزراء في دولٍ هشّةٍ وضعيفة وفاشلة.

الدولةَ الضعيفة، أو التي اصطلح عليها أخيراً بالدولة الفاشلة، والتي تنطبق عليها أوضاع العراق الحالي، هي بأمسّ الحاجة إلى رجال أقوياء ووزراء حكماء ومسؤولين نزهاء وأصحاب كفاءات وضمائر وطنية حيّة لادارتها، ولهم القدرة على صنعِ القرارات النافذة، وإعادة بناء ركائزها من جديد على أسسٍ قويّةٍ بالاعتمادِ على قوى فاعلةٍ ونخب ذكية من المستشارين والمختصّين في مجتمعٍ هو بأمسّ الحاجة إلى المؤسسّات الإدارية النشيطة كي يستعيد عافيته وقوته.

كلّ هذا وذاك هو ما يحتاجه العراق وشعبه اليوم، كما  قلنا ذلك مرارا  ، وبعد مرور قرابة 16 سنة على الاحتلال الأميركي له، وتغييرهم نظامه السياسي السابق، والتحوّل من “الدكتاتورية إلى الديمقراطية”. ولمّا لم يمرّ العراق بطورٍ انتقالي حقيقي من العدالة الانتقالية، وما حاقَ به من التناقضات، وما جرّت عليهِ التدخلات الأجنبية السافرة.. فضلاً عن نمو طبقةٍ طفيليةٍ غير سياسيّة، وغير كفوءة، استحوذت على مقاليد الحياة في العراق، وقادت البلاد من سيئ إلى أسوأ، من خلال ممارسات طائفية وتمايزيّة وانقساميّة تحتَ مسميّات التوافقية، فانّ نتائجَ كارثية حاقت بالبلاد، ولم تستطع حكوماتٌ متعاقبة معالجة الأوضاع وإيقاف الفساد المستشري، والنهب المنظم للمال العام، وسوء الإدارة، وانتشار الفوضى بانعدام الأمن، حتى بات الناس ينتظرون الخلاص من كلّ حكومة جديدة.

بعد رحيل وزارة حيدر العبادي، ووصول عادل عبد المهدي إلى رئاسة الحكومة، أمل العراقيون أن تتشكّل وزارة نافذة، أو حكومة قويّة، تكون لها القدرة على تحقيق الحدّ الأدنى من التغيير والإصلاح وإتاحة فرص الحياة، وكنتُ آمل في الرجل الإصرار على أن يكون بعيداً عن محاصصات الأحزاب والكتل والقوى المستحوذة على العراق بقضّه وقضيضه، فإمّا يفرض إرادته القوّية أو يُعفى من المهمّة، لكنهُ مضى في تشكيلِ وزارته. وقد سمعتُ منهاجه الحكومي الذي قدّمه، وكأنه يتقدّم لحكم دولةٍ مزدهرةٍ لا مشكلات فيها، ولا كأنّها تغوصُ في أشدّ المعضلات.. وعلى الرغم من إعلانه تلقّي ترشيحات من يرغب بالمناصب الوزارية بواسطة الإنترنت، إلّا أنّ هذه الخطوة وجدتها مدعاةً لسباقٍ محمومٍ من كلّ طلاب المناصب الوزارية. وقد سمعنا أنّ آلافا منهم قد أرسلوا سيرهم الذاتية، وفي أغلبها معلوماتٌ كاذبةٌ وغير دقيقة، فضلاً عن أنّ الترشيحات باتت على أفواه الجميع، اذ أصبحَ الاستيزار سوقاً رائجة للعراقيين، فتجد الأحزاب والكتل، وحتى العصابات، تفرض أسماء منها، وتجد هناكَ من يَسعى إلى المناصب من خلال القرابة والنسابة، أو من خلال شرائها بملايين الدولارات، وطرح بعض الكتّاب السذّج في مقالاتٍ كتبوها ترشيحَهم أصدقاء لهم هذا يمجّد ذاك، وآخر يمدح تلك، في عملية كاريكاتيرية هزلية مضحكة، وكأن الاستيزار مزاد علني لكلّ من هبّ ودبّ في مجتمعٍ أكله التخلّف والجهالة والتوحّش وصراع الأضداد.

وصلت التعقيدات في عملية الاستيزار في العراق إلى حالة مرعبة، بحيث ضاعت فيها المقاييس ضياعاً حقيقياً، وسط سعيٍ محموم لطلاب السلطة والجاه والمال على حساب ذوي المكانة الوزارية الحقيقية، وبقيت العمليّة خاضعةً للمحاصصات والمزايدات والمناقصات والبيع والشراء والابتزاز من قوى طفيلية داخلية، ومن ذوي التحكّم الخارجي، وضياع الركائز الحقيقية في استقلالية الرئيس، باختيار وزرائهِ الذين يمكن أن يطمئن ضميره وأخلاقه على قدرتهم في إدارة الحكم وإدارة مؤسساتهم، وما يتصفون به من نزاهةٍ وقدراتٍ وطنية في العمل وصنع القرارات.

برزت مشكلة تشكيل الوزارة العراقية الجديدة في جلسة البرلمان، حيث قّدّم عادل عبد المهدي  قائمة من الوزراء، وطلب باستيزارهم، فقبل البرلمان جماعة منهم، وتحفّظ على آخرين، علماً أنّ أغلب النواب العراقيين لاحقتهم الاتهامات بصعودهم من دون وجه حق، جرّاء التزويرات والصفقات، كما اعترف بها رئيس الحكومة السابق، حيدر العبادي، ورهط من المسؤولين، فضلاً عن فضائح المكالمات الهاتفية التي أثبتت للعالم كله حجم الزيف في برلمانٍ مزوّر، يجلس اليوم أعضاؤه نواباً مخادعين، يمثلون شعباً ضحكوا عليه طويلاً. وعليه، فإن شرعية البرلمان العراقي الدستورية مزوّرة أصلاً، ولا يمكنه أن يوافق على أيّة وزارة، إذ سيُطعَن بها وبشرعيتها الدستورية.

عودة إلى من استوزرهم عبد المهدي، ليكونوا وزراء معه في إدارة العراق وحكمه، للقول له: لقد قضيتَ عمراً طويلاً في السياسة، ألم تتعلّم شيئاً عن خبرات العراقيين في هذا العالم؟ أليس لديك من مراقبتك سنواتٍ طوالا أيّة معرفة بكفاءات بعض العراقيين وقدراتهم ونزاهتهم واستقلاليتهم وأدوارهم، مهما كانت انتماءاتهم الدينيّة والمذهبيّة والجهويّة والعرقيّة والثقافيّة والسياسيّة؟ لماذا استسلمت لتغوّل القوى المتوّحشة التي كانت ولم تزل تفرض هيمنتها وقوّتها على العراقيين في الداخل والخارج؟ ما الذي جعلك تقبل ترشيح محسوبين ومنسوبين لهذا أو ذاك؟ هل عرفت ما القرابة وما تأثيرها في الوصول إلى السلطة والمناصب لنحر العراق؟ كيف قبلت باستيزار صبيّةٍ لم يمض على تخرّجها إلا بضع سنوات، وهي لا تجربة لديها كي تجعلها وزيرة للعدل؟ وهكذا بالنسبة إلى وزاراتٍ أخرى، كالتخطيط والثقافة والتربية.. إلخ، ومؤسسات حساسة أخرى، مثل أمانة العاصمة، ومحاسب البنك المركزي، ورئيس أركان الجيش.. إلخ.

بدت عمليّة الاستيزار الجديدة للعراقيين والعالم أول خطوة فاشلة لرئيس وزراء جديد، وقصّة هزليّة مخجلة ومضحكة، يتداولها الناس منذ أيام في وسائط التواصل الاجتماعي، وعلى شاشات الفضائيات، وهم يعلنون عن سخطهم غير المتناهي.. حتى من الذين كانوا يؤيّدون العملية السياسيّة برمّتها، كون عادل عبد المهدي يقف اليوم وحده في الميدان، وسط تياراتٍ عاصفة لا ترحم، فالكلّ يريد أن يبتزّه أو يطيحه، كي يحظوا بسدّة الحكم بدلا منه. وعليه أقول ، إن لم تمتلك الحكومة الجديدة، من خلال أعضائها، مواصفات  ذكرها المقال في بدايته  واعتبارهم  وزراء  بناة  ، فإنّ أربع سنوات مقبلة ستكون  عجافاً، لا سمح الله.

نشرت في العربي الجديد / لندن  الجمعة  2  نوفمبر / تشرين الثاني  2018  ، ويعاد  نشرها على  موقع الدكتور سيار الجميل

https://sayyaraljamil.com/wp/

 

شاهد أيضاً

رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟

رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …