لما كنتم وما زلتم اصحاب عواطف متدفّقة حتى اليوم ، ولما كنت اخالفكم ذلك لأنكم تتحدثون لغة سياسية ميتة رحلت مع أهلها ، ولم تستجيبوا لمراجعة التاريخ يوما كي تضعوا النقاط على الحروف لكي نعرف خطايا ما جناه العرب بحق انفسهم في القرن العشرين .. ولما كنتم وما زلتم تعشقون ايديولوجياتكم التي حرفت كل الاجيال عن مسارها من خلال الشعارات الفارغة ، فانني اعجب جدا من مرور اكثر من ستين سنة عليكم ، وانتم ما زلتم تصفقون للمهرجين الاذاعيين الذين اساءوا كثيرا للحياة السياسية العربية واخلاقياتها وقيمها الاجتماعية ..
نعم ، رحل المذيع احمد سعيد رحمه الله ، ولكن لا يمكنكم ان تجعلوه بطلا منزها ، وكلنا يتذكر ما الذي كان يقوله ويذيعه من الاكاذيب والشتائم والاساءات ، ومشاركته في هدم تجارب وطنية وتنموية واسقاط انظمة عربية مستقرة ومعتدلة واثارة هيجان الناس على عهد الرئيس عبد الناصر ، ناهيكم عن اكاذيبه في حرب 1967 بخداع الناس حتى طرده عبد الناصر نهائيا بعد ان كان يعتبره جيشا من الجيوش !! فاتقوا الله في الاجيال الجديدة ., لا اريد اليوم ان اشمت بموته ، فليس ذلك من اخلاقي ، ولا اريد ان اكتب عن شخصية الرجل المثيرة للجدل ، وقد انتقل الى رحاب الله ، وكلنا نسير الى نهاياتنا .. ولكنني احببت ان أوجه مجرد رسالة الى من يعتبره حتى اليوم منقذا ومخلصا !!
وانقل اليكم في ادناه ما كتبته عن ذلك في كتابي ” تفكيك هيكل ” الصادر بطبعته الاولى عام 2000 ، اذ قلت :
” ينتقد محمد حسنين هيكل ظاهرة الهجوم الدعائي ضد الجمهورية العربية المتحدة من قبل الإذاعة العراقية…. ويقول: ” ففي أواخر سنة 1959 كانت جماعة ” مصر الحرة ” قد نقلت نشاطها إلى بغداد، وتقدم تقارير الاستماع الى اذاعة بغداد نماذج مريبة لخطوط الهجوم على الجمهورية العربية المتحدة من مواقع متعددة … ” (سنوات الغليان، ص541) . ومن ضمن التعليقات التي كتبها هيكل في كتابه : ما يتعلق بارتكاب الجرائم، وان الصنم الأكبر يحملق بعينيه صوب العراق المتحرر… والفراعنة الأقزام، ومهزلة تخفيض رواتب الجيش السوري، والحكام الفاشيست الخونة…. والعار يا جمال… الخ من العبارات التي ألفها المستمع العربي… ليس في هذا العام لوحده بل دام ذلك على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين !.
نريد ان نسأل هيكل: لماذا لم تكن حيادياً وموضوعياً حتى في هذه؟ ولماذا لم تقل من هو الذي اذكى حرب الإذاعات بالعربية منذ العام 1953 عندما تأسست اذاعة صوت العرب ؟ ولماذا لم تذكر ماذا كانت مهمة تلك الاذاعة ، وخصوصاً صوت ذلك المذيع الذي كرهته الجماهير كراهية عمياء بعد أن كانت تنصت إليه بكل جوارحها ! لماذا لم تذكر التعليقات التي كان يذيعها أحمد سعيد من صوت العرب باتجاهات مختلفة يميناً وشمالاً ضد العراق خصوصا ؟ لماذا لم تأت بنماذج من تعليقاته البذيئة التي كان يسم بها الزعماء العرب على مختلف الجبهات ملوكا ورؤساء وامراء وشيوخا ورجالات … ويسم بها قادة بعض الأحزاب العربية …. ويسم بها بعض الجماعات السياسية وحتى بعض النخب الفكرية والاجتماعية ؟ ناهيكم عن الشعوب العربية .. فالشعب العراقي لم ينس ما كان يطلق من تهجمات على نوري السعيد وسياساته والتي أعقبها بتهجمات على عبد الكريم قاسم وسياساته ! ناهيكم عن شتائمه المقذعة للأردن والسعودية وتونس والمغرب ولبنان وسوريا وليبيا ومشيخات الخليج وإيران وتركيا….. ويجعلها جميعا بصف اسرائيل الخ.
ولم يزل العراقيون الذين اصبحوا شيوخاً اليوم، يتذكرون قوة الهجمة الدعائية الشرسة التي تعرض لها العراق في عقدي خمسينات وستينيات القرن العشرين من الإذاعات المصرية وخصوصاً من اذاعة ” صوت العرب ” التي كانت تتدخل تدخلاً سياسيا سافراً بالشؤون الداخلية للبلدان العربية وللعراق بشكل خاص… وبطريقة تثير القرف والاشمئزاز !! فلو عاد أحمد سعيد وعادت ” صوت العرب ” من جديد اليوم… واتبعاً الأسلوب نفسه لا سمح الله ، فسوف تتقطع العلاقات وما تبقى من أواصر بين الدول العربية! لقد كانت الإذاعات العربية مثيرة للفتنة والشغب والاستفزاز والمطاعن والسباب والشتائم التي لم يعهد العرب بمثلها من قبل مطلقة على الهواء ، وتسمعها الملايين من الناس !! ولنا أن نتصور حجم تأثيراتها النفسية وتداعياتها السياسية على جيل الأمس ، والذي كانت التطلعات مشدودة اليه لتحقيق الوحدة العربية ، وهو هدف نبيل ، أساءت حرب الدعايات والإذاعات إليه كثيرا بعيدا عن روح التضامن الحقيقي وتفهم المشكلات والمعضلات المعقدة لخصوصيات كل قطر او بلد عربي .. لقد أساؤا كثيرا لجيل القومية العربية الذي تربى على مبادئ سامية من أجل المستقبل ، ولكن خانته السياسات الفارغة والتطبيقات الخاطئة والخطب الخاوية والشعارات الجوفاء التي حولّت الحياة السياسية العربية الى اجواء ساخنة شعواء !! ”
وعليه ، اتمنى ان يتقّي البعض الله في تاريخنا القريب الذي عرفناه وخبرناه ، بكل جناياته ومشاكله .. فالمواقف والاخطاء لا تبرر كونها مجرد وجهات نظر ! واذا كان احمد سعيد نفسه رحمه الله قد قسّم الاعلاميين الى ملائكة وحواريين والى ابالسة وشياطين ، فالى اي من الطرفين ينتمي الرجل هو نفسه ؟