يُقال إنّ أهل قرية كرهوا عمدتها، لعسفهِ وظلمهِ وطغيانهِ وفسادهِ كراهيةً عمياء، فانتظروا عمدة جديداً، ففرحوا بمقدم عمدة جديد لهم، لكنهم اكتشفوه لاحقاً بأنه عمدتهم الأول قد غيّر ملابسه مزيفا فكرهوه، وانتظروا عمدة جديداً، وفرحوا بمقدمهِ، فاحتفلوا وغنوّا ورقصوا، لكنهم اكتشفوا بعد حين أنّه ذاك القديم الذي جاءهم، وقد خدعهم بقناعهِ ولحيته.. ففقدوا الأمل، حتى يستعيدوا وعيهم كي تحين الفرصة ليهجموا عليه ويقتلوه ويتخلّصوا من شروره..
تشبه هذه الحكاية عرس العراقيين الكوميدي كلّ أربع سنين، إذ تتسارع الأيام من أجل عرس الانتخابات، وللبغداديين تشبيه جميل فيصفونه بـ “عرس واوية” (جمع ابن آوى) كونه عرس المخاتلين، اذ يتفاقم الصراع بين التحالفات السياسية للفوز بالسلطة عبر صناديق الاقتراع وإجراء الانتخابات في 12 مايو/ أيار2018، وستبقى الوجود المألوفة، وتمضي المسرحية المضحكة بازدياد التنافس بين المرشّحين الذين بلغ عددهم الكلّي 904 مرشحين للانتخابات، ممثلين الأحزاب، وسيجري التنافس لانتخاب 329 نائباً منهم، وهم الذين سيختارون رؤساء الجمهورية ومجلس الوزراء والبرلمان.
وبغض النظر عن مواقف العراقيين المتذبذبة اليوم إزاء هذه العملية الانتخابية المحاطة بالزيف والمخادعة والأكاذيب، فإنها فاتحة مخاطر كبيرة، مثل ماراثون صعب يشترك فيه قرابة عشرة آلاف عراقي وعراقية من الساعين إلى السلطة في نظام حكم سياسي مهترئ تماماً يعتمد دستوراً كسيحاً، وكلّ مرشّح منهم يقدّم نفسه على أحسن ما يكون، فمنهم الوطني والشهم وأبو الفقراء والمصلح والمنقذ والشيخ والمجاهد والمتمدن والمنتصر والفاتح ومختار العصر وأم ارادة وابو الحكمة .. وغيرها من الأوصاف الكاذبة.. واحتدام المواقف بين الفرقاء بسقوط قتلى وجرحى لا يمنع من إكمال هذا الماراثون الذي سينتج بضاعة ملونة وهزيلة، تتولى مقاليد البلاد أربع سنوات مقبلة، ويبدو واضحاً أمامنا اليوم، وخصوصاً من لديه الحكمة والحلم والتفكير متسائلاً: ما نوعية هؤلاء المتصارعين من أقطاب الكتل السياسية، وأتباعهم، فالكلّ يتسابق من أجل السلطة والجاه والنهب والاستفادة والمصالح الشخصية، إذ أحسّوا بطعم الملايين رجالاً ونسوةً ، ويندر جداً من تجده مخلصاً لمبادئه، وفياً لوطنه، أميناً على شعبه.. الكلّ تجدهم يقتحمون الميدان بلا أية برامج سياسيّة ذكية، وبلا أيّة أفكار عملية ومهنية ، وبلا اية تواريخ شخصية متميزة ، وبلا أية مشروعات وطنية، اطلع عليها الناس قبل الإدلاء بأصواتهم وتلوين أصابعهم باللون البنفسجي .
أغلب المرشحين التابعين للكتل والأحزاب يتقافزون كالضفادع من هنا إلى هناك بلا مبادئ ولا قيم، ولا أية ثوابت ، فمن يرفضه هذا يتلقفه ذاك ، مما يعني أنه سباق محموم من أجل المصالح الشخصية، وسيكون جلوسهم كالدمى في البرلمان المقبل، وكم هي المساومات حول تسلسل هذا أو ذاك مع شراء الذمم .. المليارات والملايين تصرف من هذا وذاك في هذا الماراثون (الانتخابي) من أجل الفوز، ولم يجب أيّ منهم عن مصادر هذه الأموال. إنها أموال منهوبات أو سرقات واختلاسات واقتناصات أو منح من دول معينة .. هلوسة وهستيريا وجنون الدعايات الكاذبة في الشوارع والميادين وشاشات الفضائيات وحتى في المقابر، وهي دعايات سخيفة، تثير السخرية والقرف مع الصور الكالحة والإعلانات البلهاء مدفوعة الاثمان الباهظة .. وجوه إعلاميين متخلفين، أو متعصبين طائفيين، أو جوقة عاطلين من الجهلة والجاهلات وقد انضموا إلى هذه المهزلة الكوميدية التي ترعاها مفوّضية يشكّ في أمرها أغلب العراقيين، كونها انبثقت بترتيب ماكر من الأحزاب الدينية الحاكمة.
نسوة عراقيات متنوعات، قسم منهن تثار حولهن علامات استفهام وتساؤلات لا حدود لها، وقد جلبن بعضهن لاكمال نصاب الكوتا .. قتلى هنا وتفجيرات هناك مع تصفيّة حسابات ، والتغاضي عن مسؤولين مجرمين، لم يحاكموا لما اقترفته أيديهم بحقّ العراق بفتح سجونه وسحق مدنه وتهجير أهله وقتل شبابه. واليوم يسعون بجنون إلى حكم العراق ثانية! ورئيس وزراء ليس له إلا التصريحات السريعة من دون أية علاجات حاسمة ومصيرية، فهو يعد ويتوّعد من دون أي فعل أو قرارات جريئة بالإصلاحات، في حين يأكل الفساد كلّ العراق.
كرنفال غير نظيف أبداً يعيشه العراقيون هذه الايام، وتمثّل في هذا السيرك أجناس ممن يسعون ليكونوا جوقة جديدة في منظومة الفساد والنهب والخراب والدمار .. هذا “الفساد” الذي سحق العراق وأهله، ودوخنّا المسؤولون بالقضاء عليه كذباً وبهتانا ، فهم جميعاً حيتان فساد.. وقد جعلوا العراق عارياً، وصلبوه وأجلسوه على مسامير حادة في تنور مسجور. وكلام مبهم تطلقهُ المرجعية الشيعية العليا، وكلّ يفسرّه على هواه من دون أيّة محددات وضوابط، ولا أعتقد أنها غافلة عما يفعله السفهاء والظالمون، فالعراق ليس حقل تجارب للفئران والجرذان.
نسبةً كبيرة من العراقيين افتقدوا أي أمل بالقادمين الجدد إلى السلطة، كونهم من اللاحقين بالطبقة الحاكمة المزمنة التي جثمت على صدور العراقيين، وأباحت كلّ شيء في العراق لمصالحها الشخصية والعائلية والفئوية منذ 2004.. بل وما نسمعه ونراه اليوم من وعود وعهود من هذا وذاك سيمحى بعد الانتخابات، وستجد إعادة غير أخلاقية للتحالفات، بحيث تبقى الأحزاب الحاكمة مهيمنة على الأوضاع، ويعود العراقيون ليأكل بعضهم بعضا!. أبشع ما يمكن تخيلّه عن هؤلاء أنهم كانوا من المسؤولين الحقيقيين عن تفاقم المحاصصة الطائفية والعرقية باسم التوافقية السياسية، واليوم يدينونها وينتقدونها، مستهترين بعقول العراقيين، وكأنهم لم يكونوا هم أنفسهم من عتاتها سابقاً ، وكلهم قد تبرؤا من جرائمهم ! يغيرّون جلودهم كلّ أربع سنوات، وتجدهم جميعاً وقلوبهم شتّى.. فلم تزل هناك قوائم شيعية وقوائم سنية وأخرى كردية لها أجندتها المتناقضة غير الوطنية.. ولما كانوا من أسوأ المخاتلين والمرائين، فهم يتكلمون باسم العراق والعراقيين بلا أيّ خجل أو حياء. وقد تجدهم من الأحزاب والكتل الدينية والطائفية، لكنهم دجالون يخلطون الأوراق، إذ يتكلّمون اليوم باسم المدنية، وكأنهم يريدون بدوغمائية عمياء حرق المدنيين الحقيقيين.
ان العراق في محنة حقيقية ، اذ يعيش العراقيون اليوم انقساماً حاداً، فهناك من لم يزل مخدوعاً بهذا النظام (الديمقراطي)، وهو يأمل إصلاحه من خلال هذه الانتخابات، وهناك من يرفض تماماً المشاركة في الانتخابات، إذ فقد الأمل أساساً من هذه الوجوه الكالحة التي تريد البقاء في الحكم بأيّ ثمن. انني أؤمن بالديمقراطية تماماً، ولكن أن تكون سلمّاً لمثل هؤلاء أن يحكموا العراق، فإنني انّزه نفسي عن المشاركة في هذا الماراثون الذي سيجري بلا أية رقابة دولية ولا اية قيم وطنية أو أخلاقية .. واخيراً أقول للعراقيين، بأنّ أربع سنوات قادمة ستكون صعبة جداً عليكم، وعلى بلادكم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
نشرت في العربي الجديد / لندن بتاريخ 8 مايو / ايار 2018
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل