اختصر الإخوة المصريون مثلا عربياً قديماً بقولهم: “موت يا حمار”، وأبقاه الأهل في الموصل بجملته الكاملة، وهو جواب اليائس البائس من قضيّة مهمّة، أو الذي لم يعد يأمل الخير قريباً. والعراق قد ملّ أهله من إصلاح الأوضاع، أو من تغيير الوجوه الحاكمة التي تهيمن على مقدّراته اليوم، إذ مضت 15 سنة على حكم الاحتلال وأذنابه من العملاء والأغبياء والطارئين والمفسدين في الأرض، ولم تزل عمليتهم السياسيّة تدور رحاها لتطحن العراق، وتمزّق شعبه تمزيقاً. وعلى الرغم من إيمان النخب العراقية الحية بالديمقراطية والتمدّن والوحدة والعدالة، إلا أن العراقيين ما زالوا منقسمين بين مخدوعين ومتخندقين، وبين مؤيدين ومعارضين، وبين متشبثين بالحكم وكارهين له كره الموت. ولم تزل العملية السياسية الحالية تدور عجلتها المكسرة، وتمضي في إطار مزيّف من “الديمقراطية ” بالتزوير والانتهاكات، وهو إطار ثبت فشله من خلال نظام حكم فاشل، ودولة فاشلة، وكلها باسم “ديمقراطية” شكلية بمضامين طائفية، دمرت المجتمع تدميراً حقيقياً، ذلك أن العوامل التي تمّ فرضها منذ العام 2005، بإصدار دستور كسيح، كانت خاطئة جملةً وتفصيلاً.
وعلى الرغم من كلّ الفشل الذريع الذي لازمَ العملية السياسية بإيجاد نظام حكم طائفي ومحاصصي بغيض، مع صناعة طبقة سياسية فاسدة مهيمنة على مقاليد الأمور، فإن الحالة تنتقل، سنة بعد أخرى، من سيئ إلى أسوأ، في مخاضٍ لا يمكن إنقاذ العراق أبداً من خلاله. والانتخابات التشريعية المقبلة في العراق ستمرّ عبر نفق مظلم آخر، إذ تقف على مدخله إيران بكلّ ثقلها التاريخي والأيديولوجي، وتقف عند مخرجه أميركا التي لم تزل تبارك ما يحصل، من دون أيّ شعور بالذنب، ومن دون أية إجراءات عملية كفيلة بإنقاذ البلاد من ورطتها.
ثبت أن الشعب العراقي منقسم على نفسه انقساماً بنيوياً حاداً منذ العام 2003، ولا يستطيع أن ينقذ نفسه بيده أبداً، ما دام أن السلطة الحالية أسسّت نفسها من خلال المحاصصات، وروّجت المكونات، وأشاعت مبدأ الأغلبية والأقليات، وعملت من خلال نظام حكم له أجندة طائفية، وأحزاب غير وطنية، وأنتجت منذ 2005 دستوراً يعج بالتناقضات، وتوالدت طبقة أوليغارشية تؤيدها مرجعية دينية، وتبارك أعمالها قوى خارجية، كانت لها القدرة على احتواء العراق، من خلال مرتزقتها وموظفيها وعملائها، وكلّ الشرائح التي قدّمت الأجندة الطائفيّة على العقيدة الوطنية.
الصورة القاتمة، والتي تزداد حلكةً وظلامية وفوضوية سوريالية، اصطبغ بها مجتمع يبدو للعيان أنه متصالحٌ مع نفسه، لكنه ممزّق في نزعاته، وتائه في أهوائه، وغارقٌ في فساده إزاء تحالفات الطبقة السياسية الحاكمة التي تريد البقاء في السلطة بأي ثمن. وقد مرت سنوات طوال على حالاتٍ فاسدةٍ، وقراراتٍ ضالة، وبعثرة للموارد بشكل لا يوصف. وكلّ يوم نسمع بضرورة الإصلاح، وهي أكاذيب مسؤولين، لم يقدمّوا أبداً أيّ برنامج إصلاحي حقيق للبدء بالتغيير. الوعود التي كيلت لا حدّ لها، وكلها أكاذيب ومبرّرات. ولم يُعاقب أحد من المجرمين والسارقين والقتلة والخونة. وتأتي الانتخابات، كي يبقى هؤلاء في السلطة، وقد احتكروها لأنفسهم، وهم يدركون حجمهم، حتى وصل الأمر بأحدهم ليقول: علينا أن نحافظ على العملية السياسية، حتى إن سحبنا الناس سحباً إلى صناديق الاقتراع! بهذا الأسلوب المتوّحش، يريدون البقاء في السلطة باسم الحفاظ على العملية السياسية، وهم يخدعون الملايين بهذه الحجة التافهة التي يخشى منها بعضهم، كونهم اقتنعوا بأن العراق لهم، لا للجميع.
تشتعل الآن صراعات خفية بين أعضاء الطبقة الحاكمة، وستزداد ضراوتها مع الأيام. رئاسة الجمهورية ستكون الآن لغير الكرد، ولكن لا تأثير يُذكر لمن ستسند إليه، فالصراع على رئاسة مجلس الوزراء، والأسماء المرشحّة حتى الآن جرّاء التحالفات الشيطانية الماكرة هي بين 3-4 أسماء، لا يمكن أن يتنازل أحدهم للآخر أبداً، فمثلا إياد علاوي الذي كان قد فقد حقّه المشروع ي رئاسة الحكومة بالقوة، ليأتي نوري المالكي بدله، وهو الذي جعل العراق مزرعة للفساد والإرهاب، وبدل أن يحاكم ويعاقب في عهد حيدر العبادي، بقي بلا حساب ولا عتاب، وربما يعود إلى السلطة ثالثة، بفعل نزعته الطائفية وأجندته الايرانية. وستتكرر مأساة للعراق ثانية، كي يصفّي حساباته الآن قهراً لإرادة الشعب وسحق العراق. أما علاوي، فإن فرصه الآن أقل مما كانت، بسبب ضعف تحالفاته اليوم، وكنت أتمنى عليه تقديم مشروع وطني قوي، لتشكيل جبهة سياسية عراقية، تطرح نفسها بديلاً للمشروع الطائفي للمالكي وحلفائه. أما حيدر العبادي، فإن فرصه تضيع يوماً بعد آخر، فهو كالاسفنجة التي كانت غاطسة في الماء، وقد خرج منه ليغدو هشاً إزاء حيتان يريدون إخراجه خارج الملعب، مهما كان الثمن وابتلاعه، وهو الذي جنى على مستقبله، كونه لم يستمع إلى أية نصائح قدّمت له، فكان أن فشلَ سياسياً، في عدم قدرته على صنع التحالفات وتقديم مشروع وطني بديل، وغدا ألعوبة ضمن شيطنة إيرانية مفضوحة بتحالف الحشد الشعبي معه، ثم انسحاب الحشد منه، ناهيكم عن تراخي العبادي، وعدم قدرته القيادية، وخلوه من الحنكة في صناعة أي قرارات جريئة. إذ ملّ الناس وعوده التي لم يستطع تنفيذها بالقضاء على الفساد والفاسدين، ولم يزل يغني هذا الموال من دون جدوى. ضعفه وخوفه جعلا خصومه ينتهكون إرادته، خصوصاً أنهم يعرفونه شخصاً متردداً منذ زمن بعيد.
وهناك اسم جديد تلمّع إيران فيه ليكون سيّداً للمرحلة المقبلة، وهو هادي العامري الذي يتزّعم فصائل الحشد الشعبي، وله تاريخه المرتبط بإيران منذ حربها ضدّ العراق قبل أكثر من 35 عاما. واذا كان عراقيون يستهجنون اسمه اليوم، إلا أنه متى يصلَ إلى السلطة، سوف يصفّقون له كعادتهم، ولكن على حساب تفاقم الاحتقان الاجتماعي، وستمرّ مرحلة صعبة وقاسية جداً بتدّخل إيراني واسع النطاق ، وربما دخل كلّ العراقيين حرباً أهلية من نوع جديد – لا سمح الله – .
تتمثل المشكلة الحقيقية مجسّمة اليوم بين العراقيين الشيعة والسنّة، علماً أن الكرد فقدوا قدرتهم على المطاولة في بغداد، إزاء الوضع الذي قادوا أنفسهم إليه. وعليه، تتمثّل مشكلة السنّة العراقيين في أحزابهم المتشظية وتحالفاتهم المهترئة وصراعاتهم على المناصب والمصالح والنفوذ بشراكتهم البليدة في هذه العملية السياسيّة. وإذا كان الشيعة يختلفون في الأساليب، ويتوّحدون على الهدف، فإن السنّة ضيعوا الطريقين معاً، فضلاً عن ضعف موقف المدن السنية الكبيرة التي تدّمرت دماراً كبيراً، وتشرّد منها الناس، وقد ضعفت جبهة الموصل والأنبار جرّاء ما حاق بهما من تمزّق وانسحاق ونزوح، فكيف ستكون النتائج يا ترى؟
وعليه، فإنّ أوضاعاً كهذه للشيعة والسنة معاً هي التي ستحدّد مصير أربع سنوات مقبلة، مع سماع نداءات كبرى من عراقيين بمقاطعة الانتخابات، من أجل إفشال العمليّة السياسية، وإلغاء نظام الحكم الحالي، بحثاً عن بديل جديد، مهما كان نوعه، يمكنه أن يخلّص البلاد والعباد من هذه المعضلة التاريخية المريرة . الأسئلة الآن: إلى متى سيقبل شيعة العراق ما تفرضه إيران عليهم؟ هل ستبقى أميركا قابلة بهذا المشهد المهترئ؟ هل سيبقى حيدر العبادي في الحكم، أم سيتلقى طعنة نجلاء ربما تفقده حياته ؟ هل لدى العراقيين قدرة على مقاطعة الانتخابات ؟ ولكن متى توحّدوا على رأي وطني واحد ؟ هل سيجتمع السنّة تحت راية إياد علاوي من أجل قلب الطاولة؟ وهل بامكانهم فعل ذلك ؟ هل سيكون لمقتدى الصدر دوره الحاسم في تغيير الصورة الحالية؟ هل ثمّة مفترق طرق للعراق، سواء في انتشاله من صبخة الوحل، أم أنه سيغوص فيها نحو الأعماق؟
وأخيراً، أقول لكل الحالمين بالعراق المزدهر والديمقراطي والآمن والمستقر ما يقوله المثل المعروف: ” موت، يا حمار، لما يجيك الربيع ” .
نشرت في العربي الجديد / لندن 5 شباط / فبراير 2018 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل