في مجتمعات متخلفة، لا يمكن ألبتة أن تطبق الديمقراطية، ولا ظواهر التاريخ المتقدمة، إذ لا يمكن الاطمئنان لمواقف عموم الناس، بل لا يمكن أن يبقى الثوري مناضلا، ولا الحزب السياسي التقدمي طليعيا، فالحكم، مع تملك القوة، يفرض على بعضهم استلاب قيمه السياسة، بل وتجعله مستبدا غاشما، بل وحتى من جاء باسم الدين أو المذهب تجعله السلطة واحدا في طبقة سياسية حاكمة فاسدة (!). وقصة رئيس زيمبابوي السابق، روبرت موغابي، من الأمثلة المعاصرة التي تعّبر عن نكوص تاريخ بلاد بالكامل، باستبداده الذي أحرق فيه كل نضالاته الأولى أيام لفظت حركات التحرّر الأفريقية أنفاسها، كي تبدأ مرحلة الدكتاتوريات.، والغريب انه أتى الى السلطة باسلوب ديمقراطي ليتحّول الى طاغية ويقوم بنحر الديمقراطية .
كنت، في نهاية سبعينيات القرن الماضي، أتابع أخبار العالم من القناة التلفزيونية BBC2 في لندن، ولم تكن الفضائيات قد استحدثت بعد. كنت أتابع الضجة الإعلامية الواسعة في بريطانيا، والتي أحدثتها انتخابات روديسيا الجنوبية، كما كانت تسمّى، كان يخوضها الزعيمان الوطنيان، روبرت موغابي وجوشوا نكومو، وكان لكل منهما تاريخه النضالي ضد نظام روديسيا العنصري، إذ كان بلدهما قد استقل عام 1965 عن بريطانيا، وعلى الرغم من ذلك الاستقلال، بقي النظام العنصري سائداً، وحاربه الزعيمان من خلال قيادتهما المفاوضات الصعبة من أجل مساواة السود بالبيض، فكانت أن جرت انتخابات 1980 بعد عودتهما إلى بلدهما في 1979، وقد أسدل الستار على حقبة التمييز العنصري، وبدأت حياة دولة جديدة استعادت اسمها السابق، زيمبابوي، واستعيدت مساحات واسعة من الأراضي التي كان يسيطر البيض عليها. كنّا نراقب تلك الانتخابات، مؤملين أن يفوز جوشوا نكومو الذي كان بديناً، ويتمتع بشخصيةٍ قياديةٍ مرنة ومرحة جذابة، وهو المناضل والزعيم الذي دعي بالأب زيمبابوي، ولكن فاز برئاسة الوزراء روبرت موغابي، وقد اتهمت بريطانيا بدعمه وقت ذاك، ولكن خلافاً حاداً ظهر بين موغابي ونكومو وصل إلى أن يتهم الأول رفيقه بالخيانة، مدّعياً أنه كان يخزّن الأسلحة في مزرعته، كي يطيح حكمه.. وبدا واضحاً أن موغابي كان قد استبد بالسلطة التي لم يفارقها أربعة عقود. وبالقدر الذي تحرّرت خلاله زيمبابوي من العبودية والاستعمار، فإنها خضعت لإرادة هذا الحاكم المستبد الذي استطاع أن يشرّع عدة قوانين، يضمن من خلالها بقاءه في السلطة رئيسا للوزراء، ومن ثم رئيساً للجمهورية.
وكان الفرق بين موغابي والزعيم الجنوب أفريقي، نيلسون مانديلا، كبيراً، إذ غدا نقيضه وهو في السلطة، فالأول عشقه العالم، كونه أضاء طريق الديمقراطية بخطابه ومواقفه، ولكن الثاني فقد حتى شعبيته في بلده، كونه جاء إلى السلطة، فاحتكرها لنفسه زمناً طويلاً، ولم يعد زعيما وطنيا باغتصابه الديمقراطية، وافتقد ثقة الجميع به، كونه استثمر السلطة لمآربه الشخصية، خصوصاً عندما اتهمه شعبه أنه سيطر على مزارع المستوطنين البيض ليسلّمها إلى حاشيته وأقربائه والمقربين منه، من أجل أن يبقى في السلطة، ويستبد بشؤون البلاد، ويفتقد تاريخه الوطني. المفارقة لدى بعض الزعماء أنهم يتحوّلون من رجال وطنيين إلى طغاة مستبدين حتى نهايات أعمارهم، مثل موغابي الذي تجاوز عمره التسعين بثلاث سنين، إذ جرى قبل أيام انتزاع السلطة منه بأسلوب مهين، فخلع عنها بقوة الجيش، وأصدرت المحكمة العليا فى زيمبابوي بعد يوم فقط من أداء الرئيس الجديد، إميرسون منغانغاوا يمينه الدستورية، قرارها بشرعية الانقلاب العسكري ضدّ موغابي، في العاصمة هراري بما يتفق ويسمح به دستورياً.
وكان الجيش قد فرض إرادته، ونشر مدرعاته، وحاصر الرئيس موغابي في مقر إقامته، وأجبره على التنحّي، وكال إليه عدة اتهامات، منها الاستحواذ على السلطة، فكان أن استقال موغابي بعد حكم زيمبابوي نحو 37 عاماً، وعقب ذلك قام الحزب الوطني الأفريقي الزيمبابوي بترشيح نائبه الرئيس السابق منانغاغوا الذي كان قد فرّ من بلاده، عقب أن أقاله موغابي، ما فاقم من الاضطرابات السياسية أخيرا. أزيح موغابي، فعمت الأفراح كلّ البلاد، لكن أبناء الجيل السابق تأسف على زعيم أحرق كلّ أوراقه وتاريخه، باحتكاره السلطة وارتكابه أخطاء جسيمة، وأضاع محبة الناس له.
ما تاريخ هذا الرجل؟ إنه روبرت غابرييل موغابي، ولد في 1924، نشأ شابا ثوريا وسياسيا في زيمبابوي، وحكم بين 1980 – 2017، إذ شغل منصب رئيس الوزراء حتى 1987 ورئيسا حتى 2017. وترأس مجموعة الاتحاد الوطني الأفريقي زيمبابوي (زانو) بين 1975 – 1980 وقاد من ورائها الحزب السياسي، زانو – الجبهة الوطنية (زانو-يف)، بين 1980 – 2017. كان يبشّر أيديولوجيا بقومية أفريقية، وعرف، خلال السبعينيات والثمانينيات، بماركسيته اللينينية، والتي ماتت إبان التسعينيات، وقد أسميت حركته الاشتراكية الموغابيزم. ناضل في شبابه ضد بريطانيا التمييز العنصري، وانضم إلى الاحتجاجات القومية الأفريقية التي تدعو إلى إقامة دولة مستقلة بقيادة سوداء. وبعد أن أدلى بتعليقاتٍ مناهضة للحكومة، دين بتهمة الفتنة، وسجن بين عامي 1964 و1974. وبعد الإفراج عنه، هرب إلى موزمبيق، وأنشأ قيادته “زانو” وأشرف على دور هذا الحزب في الحرب الروديسية، محاربا حكومة إيان سميث البيضاء، وشارك على مضض في مفاوضات السلام التي توسطت فيها المملكة المتحدة، وانتهت إلى اتفاق لانكستر هاوس. وقد أفشلت الاتفاقية حكم الأقلية البيضاء، وأسفرت عن الانتخابات العامة في 1980، حيث قاد موغابي زانو – الجبهة الوطنية إلى النصر. وسعت إدارة موغابي إلى تنمية الرعاية الصحية والتعليم. وعلى الرغم من خطابه الماركسي، ورغبته المعلنة في المجتمع الاشتراكي، لكنه تمسك، إلى حد كبير، بالسياسات الاقتصادية المحافظة.
فشلت محاولاته في الدعوات المبدئية للمصالحة العرقية، ووقف تدهور العلاقات العرقية وتزايد رحيل البيض. وبردت العلاقات مع الاتحاد الشعبى الأفريقي لشعب زيمبابوي، بقيادة جوشوا نكومو، حيث سحق موغابي المعارضة بين 1982 – 1985. وقتل ما لا يقل عن 10 آلاف شخص، معظمهم من المدنيين، على يد اللواء الخامس في موغابي. وعلى الصعيد الدولي، أرسل قواته إلى حرب الكونغو الثانية، وترأس حركة عدم الانحياز (1986-1988)، ومنظمة الوحدة الأفريقية (1997-1998) والاتحاد الأفريقي (2015-2016). وقد شعر موغابي بالإحباط إزاء بطء معدل إعادة التوزيع، فبدأ عام 2000 في الاستيلاء العنيف على الأراضي المملوكة للبيض، فتأثر إنتاج الأغذية تأثرا شديدا، ما أدى إلى مجاعة وتدهور اقتصادي شديد وعقوبات الدولية. وازدادت المعارضة لموغابي، على الرغم من أنه أعيد انتخابه في الأعوام 2002 و 2008 و2013 من خلال الحملات التي يسيطر عليها العنف والتزوير الانتخابي والنداءات الوطنية لقاعدة الناخبين. ولكن تاريخه قد حسمه انقلاب عام 2017، استقال موغابي من الرئاسة.
وأخيراً، بعد أن هيمنت على سياسة زيمبابوي، منذ نحو أربعة عقود، كان موغابي شخصية مثيرة للجدل ومثيرة للانقسام. وبعد الإشادة بكونه بطلا ثوريا لنضال التحرير الأفريقي الذي ساعد على تحرير زيمبابوي من الاستعمار البريطاني والإمبريالية وحكم الأقلية البيضاء. اتهم بأنه دكتاتور مسؤول عن سوء الإدارة الاقتصادية، وانتشار الفساد، والتمييز العنصري، وانتهاكات حقوق الإنسان، وقمع النقاد السياسيين، مع سلسلة من الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية. هكذا، فإن السلطة، إذا ما أصبحت تسلطا، تحوّل الإنسان، مهما كان مناضلا وثوريا، إلى طاغية ومستبد، وقلما نجد نماذج نضالية بقيت وفيّة لمبادئها في هذا العالم.
نشرت في العربي الجديد / لندن 3 ديسمبر / كانون الاول 2017 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل