لكَ الذكرى الطيبّة يا من أسميتهم بـ ” مرضى نفسيين ووحوش مفترسين في آن واحد ” ، حيث يأكلُ أحدهم الاخر حيّا او ميّتا ، ونجدهم وكأنّهم رجعوا الى بيوتهم وقد بحّت أصواتهم ، وألتهبت حناجرهم وأدميت أكفّهم في هوس الفوضى ، وقد فرحوا بما انجزوه من مهمّات ، وما حققّوه من دمار وخراب بعد ان طافوا في الشوارع والحارات مع شعاراتهم الخيالية الجوفاء في عصر الفوضى السياسية والزعماء المراهقين قبل عشرات السنين . آه ، كم لبسوا ثوب الوطن ليكونوا من ابشع الناس باسمه قبل ان يأتي كلّ المتاجرين اليوم ليتكلموا باسم الدين ليكونوا اكثر بشاعة ووقاحة وفساداً !
لقد عشنا منذ الصغر على صراعاتهم وشعاراتهم وافكارهم التي فاتها الزمن وأكلتها الحياة الجديدة وهم ما زالوا يلوكونها ليل نهار حتى اليوم .. كانوا وما زالوا منقسمين الى شيع واحزاب وفرق وملل ونحل وكتل .. بل وصل الامر الى انّ كلّ واحد منهم يشكّل منظومة قتل ، او ميليشيا خطف ، او جماعة اباحيّة ، او عصائب وعصابات سيئة الاخلاق وعديمة الضمير .. وقد مزّقهم التعصّب للرأي دون ان يقبلوا او يتقبّلوا الرأي الاخر مهما كان المقابل مسالماً او ناصحاً او سليم القلب والنوايا ..
لقد بقوا يؤمنون بالمطلقات والاحكام المطلقة التي يورثونها من جيل الى آخر من دون أيّ مدار له مرونته من نسبيّة الاشياء .. اذ لم يستقم أي فكر نقدي او تفكير نسبي في اذهانهم الصلدة .. كلّ واحد منهم يرى نفسه الاعلى ، وهو الاصلح وهو الاصوب ، اذ لا يتقبّل التنازل عن رأيه ولم يعترف باخطائه أبداً .
ووصل الامر الى ان يلعن أحدهم أمّة بكاملها من أجل موت زعيم من الزعماء قبل عشرات السنين ! ان العقل يقول بأنّ فهم الماضي ورجاله مع درس تجاربهم لمعالجة الحاضر ، أهمّ بكثير من البكاء والعويل والشتم والسبّ .. فلم يزل مجتمعنا السياسي يتبادل اتّهامات سياسيّة بلا أيّة حيثيات تاريخيّة بين طرفين اثنين ، وتاريخ مضى على رحيله اكثر من نصف قرن !
كلّ واحد من الطرفين المتصارعين يرى نفسه فوقَ الاخرين ، وهو الافهم ، وهو الاصلح ، وهو الاصوب ، اذ لا يتقبّل التنازل عن رأيه ، ولم يعترف بأخطائه أبدا ، فالاعتراف بالخطأ عندة مذّلة وكسر خشم وهو يتخيّل نفسه فوق مستوى البشر كلهّم ! وكم اتمنى مخلصا ان يفهم هؤلاء ام اولئك بأن لا مثالية في الحياة ، وان كلا الطرفين له اخطاؤه وجناياته .
طوال تاريخكم تصنعونَ من الاحجار آلهة ، ومن التمور اصناما ، ومن المجانين أبطالاً ، ومن الخونة زعماء ، ومن الحمقى رؤساء ، ومن التافهين طواغيت ، ومن الاقزام قامات … حتى رضيتم اليوم من المشعوذين حكّاماً ! ومن المجرمين والقتلة وشذّاذ الافاق مسؤولين ومدراء وأمراء دنيا ودين .. ومن الجهلة التعساء فقهاء ناصحين ووعّاظ مرشدين وعلماء دين .
متى تتركون ألبستكم المضحكة التي ارتديتموها في القرن العشرين ؟ متى تتعّلمون من التجارب القاسيّة التي كللّت حياتكم الشقيّة بالعبر والدروس التي لا تذكرونها ابدا ؟ متى تجتمعون في بيتٍ واحدٍ ، وتأكلون من صحن واحدٍ ، وتزرعون الاشجار المثمرة بدل حصدكم الاشواكَ .يوما بعد آخر ؟ متى تنتهي نزاعاتكم الفجّة وموضوعاتكم التافهة كي انتهي من سخريتي ؟ فقد غدوتم سخرية أمام هذا العالم وانتم تمثلون الادوار الصبيانيّة منذ عقود طويلة من الزمن ؟
الى متى يبقى الانقسام الايديولوجي عندكم جميعاً مذ ولدت الانقلابات العسكريّة في حياتكم وقد خدعتم سايكلوجيا منذ ان كنتم صغارا ؟ وكأن لا شغل شاغل لنا الا جناياتكم بحق بعضكم الاخر ! متى تدركون أن التاريخَ لا يرجع الى الوراء ابداً وانه لا يكتب مرة واحدة .. فما تعتبرونه مثاليا وساميا اليوم ستأتي اجيال قادمة تفند ما تقولون ؟ ماذا يفيدكم تمجيدكم هذا والنيل من ذاك ؟ ماذا تريدون من الماضي الذي تتصارعون على أشلائه ؟ ما لكم تقتلون القتيل ، فمنكم من يمشي طول الدهر في جنازته وهو ينوح ويبكي .. ومنكم من يبقى يتشمّت بالقتل ويتشفّى بأبشع أنواعه ؟ ولم يكن أحدكم أحسن من الاخر في التصفيّات القاتلة !
من قتل الملك الشاب ؟ من سحل الباشا العجوز ؟ من قطّع أوصال الامير ؟ من أعدم الزعيم الاوحد ؟ من أسقط طائرة المشير ؟ من أمات الاب القائد ؟ من شنق السيد الرئيس ؟ والحبل على الجرار .. لا اعتقد ان أناسا من خارج الارض قد اتوا ليصنعوا هذه الاحداث ؟ بل صنعتموها بأنفسكم ، فأنا لم اعد افرّق بينكم أبدا ، فرؤيتي واحدة اليكم جميعاً !
لا ادري متى تبدأ قطيعتكم مع تاريخكم القريب المرير ، كي تفهمونه قبل ان تتعبّدوا في محرابه ؟؟ متى يتمّ توقفّكم عن الركض وراء السراب ؟ متى تفكّروا في شعارات تربيتم عليها وكلها اوهام واضغاث احلام ؟ متى يتمّ ابتعادكم عن التحيّزات ؟ متى يعود الوعي ليطغى على العواطف ؟ متى يتمّ فهم التاريخ بعيداً عن السياسة والايديولوجيات ؟ متى يتوقّف بكائكم على عهودٍ سياسيّة مضت وقد ولدت رغماً عن أنف البعض ، ورحلت رغماً عن أنف البعض الاخر ؟ متى تعترفون بحقائق الاشياء ؟ متى تتوقّفون عن تدليس التاريخ وتشويه صفحاته ، والنيل من الاخرين دون ان تروا انفسكم ، وما الذي فعلتموه بها وبوطنكم الرائع ؟
متى تسكت أفواهكم عن الشتائمِ واطلاق أقذع الكلمات ؟ متى تتعلّمون من أخطاء جيل مضى وسترحل بقاياه قريباً وبكلّ خطاياه التي صنعها بنفسه ؟ لقد شارك الجميع في ماراثون القتل والاغتيالات وصنع الفوضى وترسيخ الكراهيّة وتوزيع الاحقاد .. وأخذ الثارات وتأجيج الصراعات .. والبلاد ترنّحت يوما بعد آخر بعد ان غدت مجرّد كرة يدحرجها المتخندقون في خندقي الحرب الباردة بين الغرب والشرق ! وكلّ الزعماء الجهلاء مجرّد دمى يحرّكها الاقوياء في العالم .
الناس ليسوا كلّهم سذّجا حتى يصدقّوا ما تقولون ، فالزعماء ليسوا ملائكة ، والخونة ليسوا ثوّارا .. ان الحلولَ ليست بمشروعات للقتل ، او دعوة الى الاعدامات والتشفّي بنصب المشانق .. والتسيّب بأسم النضال ، والتسلّط بأسم الثورة .. ولا في اقامة المجازر التي شهدها تاريخكم المضني ..
انّ الحريّة لا تمتلك بوقا عسكريا كئيبا يقيّد الناس في الصباح الباكر ةيفك قيدهم ليناموا في الليل ، والحرية ليست ساحة للاعدامات حيث تنصب المشانق ، والحرّية ليست مجرّد جدارية تحكي قصّة كفاح شعب لم يعرف معنى الحياة ولم يفرّق البتة بين الحرية والفوضى ! ولا يميّز أبداً بين التاريخ حيث رحل ، وبين الواقع حيث يقوم ، وبين المستقبل حيث يبنى الحلم .. اليوم نعيش حصاد جنايات تاريخ مرير لم يكتب بعد .. وسيكتب اكثر من مرة في قابل الايام والسنين .
نشرت على موقع الدكتور سيار الجميل بتاريخ 10 شباط / فبراير 2016 ..
WWW.SAYYARALJAMIL.COM
شاهد أيضاً
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …