الرئيسية / الرئيسية / لماذا تتآكل مجتمعاتنا من دواخلها ؟

لماذا تتآكل مجتمعاتنا من دواخلها ؟

كانت مجتمعاتنا تعاني منذ زمن طويل من تفاقم الإرهاب في ظل حكومات دكتاتورية غاشمة ومن بعض المستبدين والأغبياء الذين لم يكن تهمهم إلا السلطة والثروة والرعونة، ولم يفكروا أبداً في مجتمعاتهم والمصير الذي ستنقاد إليه ، وكم وعدوا شعوبهم بإصلاح المؤسسات والاجهزة وإطلاق الحريات وتأمين عيش الانسان بكرامة مع منحه حقوقه .. اليوم ، تعاني أغلب مجتمعاتنا من التمزق والإسفاف وانعدام الأخلاق وموت الضمائر وأصبح “الإسلام السياسي ” لباسا يتشدق به الجميع لدرء التهم بدءا بزعماء مستبدين مرورا بكتّاب ومفكرين وعلماء وفقهاء ووصولا الى قادة احزاب ومنظمات وجماعات وكتل تتبارى باسم ” الدين” .. بل تمّ سحق المثقفين الأحرار والعلماء الحقيقيين سحقا ، فقتل بعضهم ، وأبعد بعضهم من المصلحين ، ونفي بعضهم من الصرحاء ، وحوكم العديد من المفكرين الآخرين !
كنا ولم نزل نطالب بتحديث القوانين والمناهج التربوية وتوفير الحياة المدنية ووسائل العيش والسكن والقضاء على الفقر وتوفير العمل .. مع المطالبة بمشروعات مدنية حضارية كي تستقيم الحياة مع كل التطور الحاصل في العالم ، لا بتكريس إبقاء الذهنية ” مركبة ” بين بقايا العصور الوسطى وتناقضات الحياة المعاصرة ، ولكن كل هذا وذاك لم يحدث أبدا ! لقد اندفعت بعض المجتمعات العربية إلى الثورات ضد الاستبداد والمطالبة بتغيير الانظمة السياسية ، فكان ما سمي بـ ” الربيع العربي” الذي اخترق من قبل كل المتوحشين الذين سيطروا على الثورات .. ولما لم تكن هناك قيادات واعية ولا برامج بناءة ، وجدت الثورات نفسها تائهة، مع مأساة التدخلات الخارجية والإقليمية التي مارست دورها المتوحش في تفكيك المجتمعات بعد اختراقاتها ضمن اجندات خطرة بزرع الفوضى، فقلبت المعادلة الى حالات من الانشطار والتفسخ ..
وقد ساعد على ذلك غيبوبة الوعي في مجتمعاتنا ، وانتشار الجهل ، وهروب الناس الى انتماءات وولاءات دينية متعددة وانتماءات مذهبية وطائفية مهترئة ، وبدا الصراع الداخلي يأخذ له مديات خطرة بتبديل الأقنعة إثر سقوط الانظمة الاستبدادية . كما ساعد على ذلك تفشي الانقسام واللاأخلاقيات التي طغت على السلوكيات وأساليب التعامل بين الناس بحيث سيطرت جماعات متشددة وإرهابية عنيفة وميليشيات غادرة باسم المذاهب والجماعات وقوى رعاع متخلفة لا تعرف الرحمة ولا الضمير ولا الأخلاق كالبلطجية ” في مصر ، والشقاوات في العراق ، والشبيحة في سوريا ، والزعران في لبنان – كما تعرف جميعا في القاموس الشعبي العربي –وكلها مرتبطة بقيادات وأجهزة وحتى حكومات عربية واقليمية على حساب تقاليد مجتمعاتنا التي كانت تحتفظ الى زمن قريب بأخلاقيات مجتمعاتنا المعروفة والتقاليد الرائعة التي تربينا عليها!
إن مجتمعاتنا قاطبة تعيش اليوم زمنا صعبا للغاية ، وستواجه الاجيال القادمة حالات صعبة وتحديات خطرة لا قبل لها بها ، خصوصا وان التفكك والتشرذم سيطول حتى الجزئيات ، وقد غابت عنها فرص التقدم المثلى . واليوم ، وقعت الفأس في الرأس لنرى تعذيبا بشعا للإنسان، وقطعا للرقاب ، وجلدا للأجساد ، وحرقا للبشر الحي ، وبيعا لنسوة غير مسلمات .. ووشم جباه .. وعض آذان ، وغيرها من الموبقات !
إن ما ساد من ظواهر اضطهادات ناشزة قبل سنوات لا يقارن أبدا إزاء ما يحدث اليوم من دعارات، إذ انتقلت مجتمعاتنا من الاستبداد السياسي الى الشناعات السياسية باسم الدين او باسم الطائفة ، ولم يعد هناك من يتماهى مع الافكار والايديولوجيات القديمة التي نكّلت بمؤسساتنا ، بل سكتت مجتمعاتنا على القوى المتخلفة الجديدة التي جاءت الى السلطة باسم ” الاسلام السياسي ” ، وجعلته عقيدة سياسية لها ، فتعاظمت التناقضات لتلد المزيد من الدعارات ضد المجتمعات ونزعاتها ، وكذبت كل السلطات سابقا عندما ادّعت بأنها ستتبع مشروعات في الاصلاح والتحديث بحجة دعاوى معينة . إن مجتمعاتنا اليوم تواجه أبشع التحديات في دواخلها ، لما كانت قد واجهت حكومات دينية وطائفية ، بل وانبثقت دول دينية متبعة أساليب العنف ، وهي تدعي امتلاكها شرعية دينية ، وإن كل الأحزاب والهيئات والمؤسسات الدينية الإسلامية وقادتها في عموم العالمين العربي والإسلامي لم تحّرك ساكنا ، ولم تقف لتقول كلمتها الصريحة والشجاعة في ما يجري ! بل وسكت كل من يسمّون أنفسهم بالمفكرين الإسلاميين والعلماء المسلمين وفقهاء الدين المعممين ومن يلتحق بركبهم من أشباه الكتّاب المنافقين ، إذ اجدهم قد سكتوا وصمتوا على كل البشاعات التي يمارسها المتوحشون والمرضى السايكبوثيون وما يقترفونه من أهوال باسم التزمّت والتشدد ، والسبب ان مجتمعاتنا كانت ولم تزل تعيش مقيّدة الفكر ، وحبيسة الأغلال ، وجامدة الذهن .. وقد رضيت بمثل هذا الماراثون الذي نودي به منذ عقود طوال من السنين عندما أعلنوا بأن ” الاسلام هو الحل! وهم لا يعلمون ما نتائج تطبيق ذلك !
والمشكلة الأساسية أننا نفتقد مع تقدّم الزمن أفضل النخب الحرة ، ونستقبل أسوأ الجماعات المتوحشة والأحزاب الطائفية الداعرة .. لقد تعايشنا مع كل الهزائم على امتداد نصف قرن مضى في ظل حكومات مستبدة .. ورؤساء دكتاتوريين .. وهزلت الدولة العريقة بعد هيبتها على أيدي الطفيليين الجدد وملياراتهم مؤخرا .. نعم اقترن ذلك بالسلطات لا بالمؤسسات ، وبالطغيان وهشاشة النظم ، لا بسيادة القانون .. وهذا ما وصلنا اليه اليوم من هول التراجعات ؟ ولكن لماذا لم نشعر بحاجتنا للتغيير من دواخل حصوننا المهترئة ؟
ان أوطاننا لم يصنعها الآخرون فهي قديمة قدم التاريخ ، وان اي دولة تقوم كمؤسسات على تراب وطني ، ويعيش عليه شعب . واذا كانت اوطاننا تستوطنها منذ القدم عدة اطياف قومية ودينية اخرى ، فلماذا يجري استخدام اقسى انواع العنف ضدها ؟ فهي قوميات وديانات عريقة يمكنها التعايش من دون اثارة نوازعها وايذائها. ما هذه الاحقاد والكراهية التي يحملها المتشددون الذين تربوا في مجتمعات منغلقة لا عدالة فيها ، فكانت النتيجة ان توالدت جماعات مريضة ، تربت على اكاذيب ومزورات وتمجيد وتقديس نصوص وشخوص .. وكانت الاصوات الحرة تقمع ، والافكار الجديدة تستأصل .. وتجري محاكمات ضد عدد كبير من المستنيرين الاحرار ، بل وشوهت سمعتهم ، وسجن آخرون ، ونفي او انتحر او اغتيل الكثير منهم !
“كثيرا ما يأتي الذبول التاريخي عندما تتآكل الحصون من دواخلها بفعل ابنائها .. ان دواخل بعض مجتمعاتنا قد اصابها التعفّن منذ قرابة ثلاثين او اربعين سنة مضت نتيجة القصور ، والهشاشة ، والضعف ، والسذاجة ، واحتقار العقل ، وهجمة الغلو والتطرف ، كما ان الثقافة الحقيقية غدت مغيبّة ومستهجنة ، وتلاعبت العواطف دوما بأهواء مجتمعاتنا ، وطغت عليها مخيالاتها وشعاراتها الواهية ، كما تحكمت السرعة في قرارات السلطات فيها ، ولم يعترف الانسان بأخطائه وهزائمه أبدا .. لم ينفتح على الآخر ، وغدا يعبث بالخصوصيات ، ولا يؤمن بالنفع العام ولا المال العام .. ليس بقارئ ولا بمدقق .. عدو للحداثة ، عاشق للتعصب ، مزاول للتطرف ، لا يحب العمل الجماعي .. يؤمن بالعشائرية والطائفية والجهوية والمحلية .. يردد الشعارات من دون تفكير مسبق بها .. لا يصحح مفاهيمه القديمة .. يحمل تناقضاته الى اي مكان يذهب اليه .. لقد انهار عالمنا مع زيادة النكسات والهزائم العسكرية والنفسية والفكرية والاخلاقية .. وشهدنا مأساة حروبنا الباردة والساخنة بين سياسات الدول .. ” وهذا ما كنت قد نشرته قبل ثماني سنوات !
لو سارت مجتمعاتنا في طريق آخر غير الطريق التي سلكتها منذ خمسين سنة ، لكانت اليوم مجتمعات واعية ونشيطة ومنتجة ومتوازنة ومنسجمة .. ولكان للمبدعين لهم قدراتهم ومواهبهم وإمكاناتهم يحسب لهم حسابهم ، ولكن عشنا حالات التراخي ، وضياع الازمنة الثمينة في الهوس المتخلف ، وترديد الشعارات الماكرة والغبية وتربية الناس على الكراهية والتحريض والعنف .. لم يعد الضبط والربط موجودا ، بل اندلعت حروب لا معنى لها قتلت زهرة شبابنا ، وأزهقت أرواحا بريئة ، وبددت ثرواتنا هباء .. لم نجدد انفسنا مع توالي الايام والازمان .. لم تجد مجتمعاتنا فسحة من التغيير من اجل بناء وعي جديد بالزمن والتقدم .. هيمنت على العقول وكبست على الاذهان تلك الاوهام السياسية العمياء . وعّم الاضطهاد والاستبداد ، فلا اي مساحة للرأي الآخر ، بل ولا حتى هامش صغير للحريات .. ساد القمع والكبت في كل مكان .. كل هذه وتلك جعلت مجتمعاتنا تتفكك ، ونخبها تهاجر ، واجيالها تنغلق ، وشارعها يصمت .. فمتى تتغير بوصلتنا نحو المستقبل ؟ انها تتغير بولادة انسان جديد ووعي جديد وعلاقة انتاج جديدة وابداعات من نوع جديد .. ” .
فهل سيتحقق ذلك ؟ إنني أشك في ذلك !

نشرت في المدى ، العدد(3281) ، يوم السبت 7 فبراير / شباط 2015 ،
http://www.almadapaper.net/ar/ViewPrintedIssue.aspx?PageID=13362&IssueID=1673
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com


شاهد أيضاً

رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟

رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …