ان ” شعب العراق شعب حائر ” – كما وصفه احد الحكماء – قبل اكثر من خمسين سنة .. وهو شعب ينتقل اليوم من حكم جائر الى حكم داعر ، اي بمعنى : انه شعب لا يعرف ماذا يريد وماذا يفعل ازاء من يحكمه من الجائرين الداعرين الذين اهانوا العراق والعراقيين واهانوا جيشه ، وقسموا شعبه ، واطلقوا اسوأ الصفات عليه . علينا ان نعلم ، ان حكامه لم ينزلوا من السماء ، بل هم من نسيج هذا الشعب .. ولكنه نسيج مهترئ غدا ممزقا اليوم جراء سياسات خاطئة بدأت تعزف على صراع الطوائف وصراع البيئات والمدن والمناطق ..
وعليه ، ان لا نعجب من حروب باردة قميئة نشهدها على الانترنيت والفيسبوك او الفضائيات تثير الاشمئزاز بين العراقيين اليوم ، وخصوصا بين شيعة وسنة .. وهذا سر انقساماتهم الصعبة بحيث لم يعد هناك من اهتمام وحديث بين العراقيين منذ زمن الاحتلال عام 2003 حتى اليوم الا ” سنة وشيعة ” ، ولم يعد هناك بين العراقيين من تفكير سياسي واهتمام اجتماعي وتعبير ثقافي الا الطائفية ، وعادة ما تنتهي بالخصومات والشتائم . وغدا العراقي لا يتكلم مع العراقي الاخر الا بعد ان يعرف مذهبه وميوله الطائفية .. بل واصاب هذا الوباء اغلب المثقفين العراقيين بحيث يجبر حتى المستنيرين غير الطائفيين ان ينحدروا الى هذا المنحدر بفعل قوة الهجمة وردود الفعل ازاءها ..
لقد كثرت في تاريخ هذه البلاد جملة من المفاجئات التي تثير الاعاجيب .. اما المواقف ، فإنها تتناقض بشكل لا يمكن تخيله . ويبدو ان كثيرا من العراقيين هم ورثة اجيال كانت قد عانت كثيرا من امراض جماعية نفسية ، فكانت الاجيال الجديدة قد ورثت كل بقايا تلك الامراض بحيث استغرب من شباب عراقي في مقتبل العمر يعيش في الغرب وهو يحمل هذا الوباء الطائفي بشراسة وتخلف .. ان ما نشهده اليوم لما يحدث بين العراقيين من علاقات واهية تتخللها شتائم وسباب وشماتة واثارة واحقاد وتوصيف سوءات لا يمكن تخيلها حتى وصل الامر بتفكك علاقات وتمزق روابط وزيجات وتشرد اسر ونهاية صداقات قديمة رائعة كانت تجمع عراقيين سنة وشيعة منذ عشرات السنين ..
وحبذا لو كانت المنافسات سياسية او فكرية بقدر ما غدت طائفية مقيتة .. من المعيب جدا ان نطلق اسوأ الأوصاف بحق اهل اية مدينة عراقية ! ومن المعيب ان نشتم اهل مناطق عراقية كاملة ، فكأننا نشتم انفسنا ! ولا يمكن ابدا ان ابيع شعبا كاملا من اجل ان يبقى حاكم فاشل في الحكم والاصرار عليه .. ان كره نصف مجتمع لنصفه الاخر بمثل هذه الدرجة لا يمكن ان يحقق اية وحدة وطنية ، وان اي بلد أو اية امة لا يستقيم امرهما من دون لحمة وطنية ، او نزعة اجتماعية موحدة .. وحتى ان كانت هناك اختلافات اجتماعية او خلافات سياسية او تباينات طبقية او منازعات داخلية وقبلية واسرية .. ولا يمكن ابدا ان ينشر اهل العراق غسيلهم على العالم بمثل ما يجري اليوم .. لقد عشت في بلدان عديدة عربية وغير عربية في هذا العالم وعايشت ثقافات متنوعة على مدى اربعين سنة مضت .. لم اشهد ابدا فيها جميعا اية حالة مشابهة لمثل ما صار عليه العراقيون اليوم من تمزقات فاضحة .
هل من العقل بمكان ان يصل هذا السخف الى حدود القتل والتفجير ؟ هل من العقل بمكان ان يتشفى العراقيون احدهم بالاخر ؟ هل من العقل بمكان ان ينحدر عراقي وهو في السبعين من العمر ويدعي انه يحمل الدكتوراه من فرنسا ، وهو يستخدم علنا لغة لا اخلاقية مع احد اعز اصدقائه كونه اختلف سياسيا معه ؟ هل من العقل بمكان ان يطلق العراقي لسانه على سجيته ليعبر بالشتائم ضد اهله العراقيين ويتهمهم بتهم باطلة من دون ان يعرف الحقائق لما يجري ولما جرى في هذه المدينة او تلك ؟ هل خليت مدينة عراقية او قرية عراقية من الالام والاضطهاد حتى تمّحي القيم والاخلاق فيتم توزيع الاتهامات السيئة على كل اهلها ؟ هل من الضمير الحي ان تعاني بعض المدن على مدى سنوات من الاضطهاد والتهميش والاقصاء من خلال اوامر عليا ، ويسكت بقية العراقيين على ما يجري ظلما وعدوانا ! لماذا يسمع بعض العراقيين لما تقوله السلطة وابواقها الاعلامية من دون السماع لما يقوله بقية ابناء الشعب ؟ لقد وجدت ان العراقي الحقيقي هو الذي يحفظ لسانه من ان يسئ الى اي عراقي او الى مدينة او الى اي طائفة .. او يوزع الاتهامات ضد الناس ويترك السلطة تعبث بحياة البلاد والعباد .. ولا اعتقد ان اي عراقي يحمل ذرة من الشرف يقبل بوجود ارهابيين في مجتمعه يقتل ابناء بلده ..
قبل ان ندين اهلنا في اية مدينة او منطقة ، علينا ان ندين سياسات جائرة ، او اوامر غبية ، او هزيمة جيش يصفه قائده العام بأنه قد انسحب تلبية لأوامر بالانسحاب من دون ان يسمي من الذي اصدر الاوامر ؟ علينا ان ندين ما مارسه افراد الجيش من ممارسات في اهانة العراقيين والنيل من كرامتهم .. كم آلمني يوما ما سمعته قبل ثلاث سنوات عن واحد من اساتذة جامعة الموصل ، عندما انزله الجنود من سيارته ونالوا منه طائفيا وبصقوا في وجهه وهو ابن السبعين من العمر بسبب اسمه .. كتب لي ليعلمني وهو يبكي !
علينا ايها العراقيون بالدعوة الى التغيير وتأليف حكومة انقاذ بدل الحكومة الحالية التي منيت بالهزيمة النكراء بعد تاريخ سيئ على مدى ثماني سنوات مورست خلالها كل الموبقات والمفاسد والتفجيرات وتبديد الثروات واسوأ الحملات .. ثماني سنوات والعقلاء يطالبوهم بمصالحة وطنية بين الفرقاء ، ولكن جرى الكيل بمكيالين على اسس طائفية وتعرض الالاف من الناس العراقيين الى الجوع والضياع والتشرد والاذلال والاعتقالات على حساب آخرين ينعمون بالآلاف من الدولارات ! لقد كان حل ما حدث مؤخرا وما سيحدث في الايام القادمة بسيطا جدا ، لو جرت محاولات صادقة ومخلصة لتأسيس عقد وطني يجمع كل العراقيين من دون تمييز ، وخصوصا التمييز الطائفي الذي حاق بموظفين وقادة واساتذة وطيارين وخبراء وقضاة واطباء ومديرين وضباط .. مع منح كل العراقيين حقوقهم .. ومثل هذا كله الذي يجري في العراق لم تشهده مجتمعات اخرى خرجت من عهود دكتاتورية ليحل الوئام بين الناس من خلال دستور وقانون ومصالحات وطنية ..
لا حاجة ابدا الى اصدار الفتاوى من هذا الجانب او ذاك ، او استخدام الشحن الطائفي الذي يدفع بالعراقيين الى الحرب الاهلية .. ان العراق لم يزل ينتظر الحلول العقلانية للخلاص قبل فوات الاوان .. ودعوني اقول بأن العراقيين سوف يشعلون مصيرهم ويحيلون بلادهم الى خراب .. ان اخفاق ما يسمى بالجيش العراقي وهزيمته لا يمكن معالجته بإشعال حرب اهلية وقتل العراقيين بأيدي العراقيين ، فهل ذهبت الحكمة وتاه العقل واصبح صناع القرار العراقيين مجموعة مجانين .. واستغلال الظروف للبقاء في السلطة ؟؟
فهل هناك من رسم خارطة طريق نحو بدء تاريخ جديد ، والاسراع بالتغيير قبل اندلاع اية حرب اهلية وانقسام البلاد وحلول الخراب مع تدخلات الاخرين في شؤون العراق – لا سمح الله – ؟
اولا : تأسيس حكومة انقاذ وطنية تبدأ بالحوار مع كل الفصائل الوطنية واعادة الاعتبار الى الضباط العراقيين السابقين ومعاملتهم معاملة رسمية واخلاقية حضارية ومنح حقوقهم اسوة ببقية الضباط العراقيين الذين يعملون في الدولة اليوم بعد ان كانوا يعملون ايضا في ظل حكومات سابقة .
ثانيا : البدء بعملية سياسية وطنية جديدة بعد حل الدستور واصدار قوانين تضبط احوال البلاد من الناحية الامنية والتحضير للدخول في طور مرحلة انتقالية تتحقق خلالها العدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية ويجري خلالها إصدار دستور يؤمن الحياة السياسية المدنية لمستقبل عراق ديمقراطي متقدم .
ثالثا : محاسبة كل المقصرين والمفسدين العراقيين على امتداد ثمانية سنوات مضت ، ومحاكمة ومعاقبة كل الذين ساهموا بقتل العراقيين واضطهادهم وتهجيرهم وتفجيرهم .. مع اصدار قانون يحرم التمييز الطائفي بين العراقيين ، ويجري مصالحات وطنية .
رابعا : ابعاد رجال الدين عن الدولة وسياساتها نهائيا ، وان يحل بدلهم العديد من المستشارين العراقيين من ذوي الخبرة والتخصص في العلوم المدنية والعسكرية .. مع العمل على الغاء كل الاحزاب والجماعات والعصائب والكتل الدينية والطائفية .
خامسا : احترام الدولة لكل العراقيين بمختلف اديانهم ومذاهبهم واطيافهم واعراقهم وطوائفهم وممارسة الناس كلهم لشعائرهم .. وان يتم اختيار كبار المسؤولين على اساس الكفاءة والخبرة وحسن السيرة مهما كان دينه او مذهبه او اتجاه الفكري والسياسي ..
دعوني اقول .. بأن الزمن لا يعود الى الوراء ابدا ، وان الدكتاتورية لا يمكن عودتها من جديد .. وان المتغيرات قد اصابت الجميع . اتمنى ان يتم التغيير ومجيئ قادة شرفاء لهم حكمتهم ورؤيتهم وعقلانيتهم كي يعاملوا العراقيين كأسنان المشط من دون تمييز وان يرسموا طريقا عراقيا للمستقبل .
نشرت في جريدة المدى ، الاثنين 16 حزيران / يونيو 2014 .
http://www.almadapaper.net/ar/ViewPrintedIssue.aspx?PageID=9827&IssueID=496
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
وتنشر ايضا على صفحات د. سيار الجميل في الفيس بوك وتويتر
شاهد أيضاً
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …