تابعت قبل قليل حلقة من برنامج على قناة الفضائية البغدادية حول ” المثقفين العراقيين والتحالفات السياسية ” ، وبقدر ما كانت الاسئلة مطلقة في احكامها ، سريعة في تشويه صورة المثقف العراقي ، بل والمجازفة في ادانته وكأنه المسؤول الاول والاخير عن اوضاع العراقيين المزرية والصعبة ، وايضا عن قلّة وعيهم وضعف حيلتهم وعن تخندقاتهم وعدم انسجامهم .. وبقدر ما كانت اجوبة الاخوة الضيوف قوية وراجحة وعاقلة وهم يردّون على تلك الاسئلة المثيرة .. ولكن الموضوع اكثر تفصيلا واصعب تعقيدا في ان يناقش في حلقة تلفزيونية ، وتكال الاتهامات ضدّ المثقّفين العراقيين على مدى ساعة من الزمن ، وقد اصبحوا من المتّهمين الذين اجرموا بحقّ العراق والعراقيين ! والمثقف الحقيقي – كما يعرف الجميع – هو ذلك المبدع في نتاجه الفكري او العلمي او الادبي او الفني .. معبرّا عن خصوصيات مجتمعه شريطة ان يندمج معه ويشعر بضروراته ويؤمن بتقدّمه وتطوّره وحداثته .. وهو الذي باستطاعته ابتكار افكار ، او خلق نصوص ، او رسم لوحات ، او تعبير موسيقى ..
دعوني اعبّر عن بعض الافكار والرؤى والنقدات التي اراها مفيدة لإغناء هذا ” الموضوع ” ، وحتّى لا يكون ما سمعنا من اجوبة مجرّد وجهات نظر دفاعيّة ، وحتّى لا تعدّ الاسئلة التّي طرحت بريئة ، وان مقدّمها مسؤولا عنها ، فمن المعتقد انها عبرّت عن آراء ما يشاع عند اغلب الساسة العراقيين في التنكيل بالمثقّف العراقي تنكيلا لا مبرّر له ابدا .. وقد قلت مرارا وتكرارا بأنّ المثقّف العراقي ( وحتّى العربي ) ليس مسؤولا عن كلّ ما نشهده اليوم في مرحلتنا الصعبة من عبث قيمي ، وسقوط اخلاقي ، وجهالة عامة ، وتفاهة سياسة ، وانحرافات ساسة ، ومدّعي ثقافة .. اذ لا يمكن للمثقّف الحقيقي – كما اسمّيه دوما – ان يأخذ دور صانع القرار .. مهما بلغ من التنويريّة والقوّة المعنوّية والتأثير الاجتماعي وممارسة النقد الموضوعي وطرح المشروعات الوطنية وخلق المفاهيم الجديدة وانتاج الابداعات الخلاقة كونه لا يمتلك اية سلطة ..
اما ان ينكّل اعلاميا بالمثقّف العراقي كونه لم ينجح في تغيير الواقع ، فهذا مجرّد هذيان لا يصلح ابدا ان يعرض على الناس كي لا يزداد الحقد والكراهيّة ضدّ المثقّفين من قبل العامّة ، ذلك ان المثقّف لم يقتصر صراعه مع السياسي بكلّ توحش هذا السياسي وجهالته وتفاهته ، بل بدأ الاعلاميون يزيدون من ايقاع اللوم على المثقّفين وعتاب المبدعين .. ان الدور الحقيقي للمثقّف ان يعمل على انتشال الناس العاديين من مواقعهم الدنيا كي يرفعهم الى مستواه من خلال ما يمكنه التأثير فيهم ، ولكن ان ينزل الى مستوى وعظي تعليمي او تربوي لكي يكون بمستوى وعقلية ( مُلّا ) في مسجد او حسينية فهذا ليس من مهمّته ابدا !
وليس المثقّف الحقيقي مهرّجا ، او دمية ، او خروفا في قطيع يرعاه واحد من الجهلاء ، كما انّ المثقّف ليس أمعّة مهمّته ان يصفّق او يرقص في حضرة اصحاب الدولة او الفخامة او المعالي .. باختصار ، المثقّف الحقيقي لا يمكنه ان يكون مجرّد مثقّف سلطة يأتمر بأوامرها ، ويسبّح بحمدها ، او يعمل في اروقتها ، او يقبض من وراء كواليسها ، وكم في عراقنا اليوم من وعّاظ للسلاطين يتلوّنون مع كلّ عهد من حين الى حين ..
ان الحريّة بالنسبة للمثقّف كالهواء والماء ، فلا يمكنه ان يكون مقيدّا ، او مصفّدا ، او تابعا بأوامر رئاسية رسمية او غير رسمية .. والمثقّف الحقيقي لا يمكنه ان يكون طائفيّا ، او شوفينيّا ، او فاشيّا ، او جهويّا ، او مغاليا ومتطرفّا .. اذ لا يمكنه ان ينحرف عن مبادئه الحضاريّة وقيمه الحداثيّة وعن وحدته الوطنيّة وعن حبّ كلّ شعبه ، فلا يهمّه الّا الانسان والارض والوجود والمصير .. ويسعى من اجل تطوير الحياة وارتقاء الانسان وعشق الوطن .. وفي العراق ، ابتلي البعض من المثقّفين بأمراض شوفينيّة واوبئة طائفيّة خصوصا عندما يوظفّها بأساليب مباشرة او غير مباشرة في التمييز ضدّ كلّ اهله وشعبه .. انه فعلا النزول من فضاءات عليا والانحدار الى مستنقعات سفلى ..
ان المثقّف الحقيقي هو من يمتلك العقليّة النقدّية ، وان يقرأ قراءة الناقد من دون ايّة انزلاقات الى مستنقعات السياسيين والمؤدلجين ابدا .. ولا ينافق ابدا . ان عشرات ومئات الكتّاب الذين يكتبون وينشرون يوميّا ليسوا كلّهم بمثقّفين حقيقيين ، وخصوصا اولئك الذين يمارسون دور السياسي او ما يسمّى بـ ” المثقّف السياسي ” الذي تتحكّم فيه اهواءه وعواطفه ومصالحه والى اين تقوده ذاته وتعجّ الساحة العراقيّة اليوم بالطائفيين مع كلّ غلوهم وسوء تفكيرهم وتطرّفهم الذي يخرجهم عن الطريق الثقافي السوي ليشاركوا في تقهقر العراق وضياع العراقيين .. وتحيّة الى كلّ المثقّفين العراقيين الاحرار من المناضلين والمحتجّين ضدّ الفساد والفاسدين .
ان المشكلة الاساسيّة تكمن في تعريف من يكون هذا ” المثقّف ” الذي أمتُهِن حتّى توصيفه عن غباء وسوء فهم .. فراح الاخضر بسعر اليابس .. – وكما يقول اهل الاقتصاد – ” ان العملةَ الرديئة دوما تطرد العملة الجيّدة من السوق ” .. ونسأل : كم من المثقّفين العراقيين قد دفع حياته ثمنا لكلمته ومواقفه ؟ وكم من المثقّفين العراقيين الحقيقيين لم يزل يشارك من خلال ابداعاته في الميدان بإخلاص ووفاء منقطع النظير ؟ وكم منهم قد نال من التنكيل والملاحقات والاعتقالات والاعدامات .. وكم حورب في رزقه وعيشه وسمعته ، ونال من التهميش أو التهجير أو الشتائم أو الاقصاء على حساب اولئك التافهين والمتسلّقين والمداهنين والمنافقين والمدجنيّن ومنهم بعض الطارئين على الثقافة والمثقّفين ؟
لا يمكننا ان ننكر ابدا ادوار المثقّفين العراقيين حتّى وان كانوا قد شرّدوا من بلادهم واوطانهم ، وبقوا يعيشون في الشتات ، وقد صادفوا مشكلات صعبة وتحدّيات قاسية ، ولكن بقيت قضايا اهلهم ومآسي مجتمعهم تعيش في وجدانهم وضميرهم .. اعيد واكرر ثانية : ان المثقّفين العراقيين الحقيقيين لم يكونوا بمسؤولين عن الكوارث والنكبات والانكسارات والهزائم والانسحاقات التي لحقت بالعراق على ايدي السياسيين والقادة والضباط العسكريين والرجال المعممّين وارتال من الاجراء والمرتزقة والعملاء الغادرين وكتّاب التقارير السريين ..
دعوني أسأل : ماذا يمكن للمثقّف العراقي ان يفعل في مثل هذه المرحلة الصعبة التي وصلت اليها البلاد ؟
لم يمرّ المجتمع العراقي بمثل هذه الحالة التي يعيشها اليوم ابدا .. واعتقد ان المثقّف العراقي اليوم انما يساهم بدوره بعد ان تحرّرت ارادته من الصمت الذي كان عليه ، اذ نجد جملة رائعة من الافكار ، والعديد من النصوص الابداعيّة الجميلة ، وهناك جملة من الرسوم والتشكيلات الابداعيّة .. هناك كتب ومقالات تنشر يوميا . ان المثقّف العراقي بالرغم من كلّ مشكلاته وازماته ، فلم يقّصر ابدا في واجباته وما تقتضيه المرحلة منه كضرورة اساسيّة اليوم .
كنت قد قلت منذ العام 2002 عندما نشرت سلسلة حلقات كتابي الموسوم : ” انتلجينسيا العراق : النخب المثقّفة في القرن العشرين ” بأن الذّي قدّمه المثقفون العراقيون للحياة الثقافيّة والاجتماعيّة كبير جدا مع معاناتهم وما حلّ فيهم من مآس ونكبات .. بل ودفع بعض المثقّفين حياته ثمنا لكلمته الحرّة .. وشهد العراق في القرن العشرين ولادة نخب ابداعيّة مثقّفة في ميادين عدة تفوّقوا فيها تفوّقا باهرا ، وبرزت منهم اسماء كبيرة في الحياة العربية الحديثة . ولكن ؟
في كلّ عهد سياسي يمرّ ، يصنع العراقيون لهم بطلا ، يركض من ورائه عدد من المثقّفين ليكونوا في ركاب السلطة بالتصفيق تارة ، او التمجيد اخرى .. ولكلّ حزب سياسي البعض من المثقفيّن الذين يكونوا جزءا منه للكتابة عنه وتمجيد دوره ونضالاته .. ان المثقّفين العراقيين الحقيقيين كانوا قد واجهوا اصعب التحدّيات منذ العهد العثماني وانتقالا الى عهد الاحتلال والانتداب البريطانيين والعهد الملكي والعهود الجمهورية والدكتاتورية وحتى يومنا هذا على عهد الاحزاب الاسلاموية ..
ولكنهم اليوم يعيشون ازمة قاتلة بفعل ما حدث في المجتمع من انقسامات .. ومن اسوأ التداعيات السياسيّة ان تجد بعض المثقّفين وقد انقسموا الى ثلاثة اقسام : مثقّفون ما زالوا يناضلون من اجل القيم والعدالة والابداع والحداثة .. وهناك من انحدر نحو الادنى ، وهناك من آثر الصمت .. ان اصعب مشكلة يعاني منها البعض من المثقّفين العراقيين انهم ينقسمون طائفيّا من حيث لا يشعرون .. وعليه ، فانّهم غير منسجمين مع بعضهم الاخر ابدا ، فهم لا يعبّرون عن كنه المجتمع كلّه .. ومن الصعوبة تطوير الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة في العراق وواحدهم ينهش احدهم الاخر ، فلقد غاب الانسجام بين المثقّفين العراقيين مذ غابت قيم الصداقة والوفاء والتسامح والتواضع والهدوء والايمان بالاختلاف .. ان اسماء من الرموز المثقّفة العراقية الكبيرة التي اغنت الحياة الثقافيّة العراقيّة منذ مائة سنة حتى اليوم .. باتت منكرة ولا يعترف بها جرّاء ما حدث من انهيارات مفجعة في الاخلاق وغياب القيم العالية . . وهذا لم نجده في مجتمعات اخرى!
وللحديث بقية ..
نشرت في جريدة المدى البغدادية ، يوم الاثنين 9 حزيران / يونيو 2014 .
http://www.almadapaper.net/ar/ViewPrintedIssue.aspx?PageID=9699&IssueID=490
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …