الزعامة في العراق : طريق الالام لمصير مؤلم
بالرغم من نسبيّة فنّ الحكم بين ايجاب وسلب ، فانّ العراق له جدليّة غريبة بين شعبه وزعاماته من زمن الى آخر ، انّ ايّا من زعماء العراق ، مهما خدع شعبه ، فسوف لا يكون ابدا ظلّ الله في الارض ، او يجعل نفسه من صنف الالهة ، او يصف نفسه ” مختار العصر ” كي يتبعه الناس .. والمشكلة ليست في زعماء مثل ” الملك المؤسس ” ، او ” الباشا صاحب الدار المأمونة ” ، او ” الزعيم الاوحد ” او ” القائد الضرورة ” ، او ” دولة الرئيس ” .. الخ بل المشكلة في مجتمع يجعل من زعمائه اصناما يتعبّد في محرابهم ، فما ان يسقط واحدهم حتى يسحقونه ، فيصبح الوصيّ عدو الاله ، ويصبح سيدي الباشا ذيلا للاستعمار ورأسا للرجعية ، ويصبح الزعيم الاوحد مجرما خدّاعا ، ويصبح ابو الثورات الثلاث مرتدّا وخائنا ، ويصبح الاب القائد محالا على المعاش رهن الاقامة الجبرية ، ويصبح القائد الضرورة دكتاتورا وطاغية مستبدا ، وسيصبح ” مختار العصر ” في خبر كان بعد ان يأتي من بعده ( أي معبود جديد ) لا يعرف هو الاخر ابدا كيف يتعامل مع العراقيين ، فهو يخدعهم ويضللّهم ، وهم يضحكون عليه سواء خافوا وارتجفوا وارتعبوا منه ، او نافقوا له وتراقصوا امامه ، او راحوا يسحلونه ويلعنونه زمنا ، ثم يصبح ( رحمة الله عليه وعلى عهده ) !
من يقرأ تاريخ علاقة العراقيين بزعمائهم منذ عصور خلت ، يجدها مضطربة وقلقة وتحمل تناقضات حادة ، وقد عبرّ عن ذلك حكماء وأئمّة ومؤرخون في اكثر من ” نصّ ” ، و” موقف ” .. كونها “علاقة ” تعّبر عن طبيعة مزدوجة ثنائية ومتنافرة يعيشها العراقيون ، ليس في ما يظهرونه او يبطنونه فقط ، بل في ما يفكّرون به في زمن ما ، او ما يعتقدون به خلال عهد معين .
في عام 2003 ، تمنيّت ظهور اي زعيم عراقيّ وطني ذكي متواضع ، يتمتّع بمؤهّلات قياديّة ، وكاريزما رياديّة كي يعيد بناء المؤسسّات من خلال ارادة وطنيّة مستقلة ، وان يمرّ العراق في مرحلة انتقاليّة حقيقيّة ، فتعاد الثقة بين ابناء المجتمع ، ويتحدّث باسم العراقيين كلّهم ، وينادي بمبادئ عراقيّة محررّا شعبه ومستقلا ببلاده عن المحتل ، ويحسن اختيار الاذكياء لإدارة المؤسسّات واعادة بنائها ، ويضبط امن البلاد ويحافظ على اموال العباد .. ولم يحدث ذلك كما حدث في بلدان اخرى قد مرّت هي الاخرى بأزمان صعبة وعبرت طورها الانتقالي بنجاح . وقد كان احد الاخوة العراقيين قد انتقدني سنة 2003 قائلا بأنّ العراق لم يعد بحاجة الى ايّ زعيم ، لأن زمنهم قد رحل ومضى الى غير رجعة .. هكذا يتوّهم البعض من العراقيين ان شعبه من الرقي السياسي حتّى تحكمه مؤسسّات .. والعراق خاو منها ، وقد وقع تحت الاحتلال البشع الذي ابقى بوابة العنف مفتوحة ، ورسم للعراقيين طريق الآلام المضمّخ بالدماء .
الرئيس الراهن : مختار العصر ام نهاية المأساة ؟
على الرغم من قناعتي الراسخة ان رئيس الوزراء الحالي للعراق قد افل نجمه ، وفشل امره بسبب سوء ادارته البلاد ، وعدم معرفته كيفيّة التعامل مع كلّ العراقيين ، وبالأخصّ مع شركائه وحتى مع خصومه ، ولم يحاول ابدا القضاء على الفساد ، واعتماده حاشية غير نظيفة ، ولا ذكيّة ، ولا مؤهلات وطنيّة لها ، فضلا عن سياسة طائفيّة مفضوحة مع تسييس القضاء والجيش لصالحه ، ولم يحاول في جعل نفسه زعيما حقيقيا باندماجه مع الناس ، ولم يعرف ترضية معارضيه من اجل ضرورات وطنيّة ، ولم يخدم كلّ العراقيين وتلبية ما يحتاجونه .. فضلا عن علاقاته المضطربة مع جيرانه العرب .. وبالرغم من ذلك كله ، فانّ بعض اصدقائي يؤكدّون لي بأنه سيفوز كونه سيفعل التّي واللتّيا من اجل البقاء في السلطة ، وخصوصا في اللعب على وتر الطائفيّة مع انسحاب خصمه السياسي المؤثّر من الحلبة ، وتبقى النتائج مرهونة بمعادلة ما يريده الاخرون من وراء الحدود ، وبمعادلة الصندوق الانتخابي ومن يتحّكم فيه ان لم يصبه التزوير . انني اقول : ان ” المشكلة ” ليست في زعيم ، بل فيمن يقف وراءه ، والمشكلة الاخطر تتمثّل في عمليّة سياسيّة مهترئة .. ان أيّ رئيس وزراء عراقي سيتولّى الحكم ، وهو من اي حزب يوظّف الدين والطائفة لأغراضه السياسيّة ، فسيبقى الحال على نفسه .. وسوف لا نجد ايّة فرصة لعدالة انتقالية في حكم البلاد والعباد ، وخصوصا ان بقي يرتكب المزيد من الاخطاء الجسيمة ولا يعترف بها او يصلحها ، ويحاول جاهدا ان يتجاوز الازمات ويبتعد عن اثارتها ، وينقذ مدنا كاملة من انسحاقاتها .. كما لا يمكن ان يصرّ على اجندته الحزبية وسياسته الطائفية .. ولم يعمل على تغيير الاوضاع جذريا ، باستجاباته لكل النداءات الوطنية والسياسية النخبوية والجماهيرية له .. وان حساباته بدت حتى الان خاطئة ويا للأسف ..
انني اكتب مقالتي للزعيم القادم الذي اعتقد انه سيأتي من بعده سواء كان عسكريا اثر انقلاب عسكري يعدّ له في كواليس خارجيّة ليقلب الطاولة رأساً على عقب ، او كان مدنيّاً ان كانت الانتخابات نزيهة وخالية من العيوب ، وهذا صعب تحقيقه ازاء ناس غير مؤهليّن للزعامة يتصارعون على السلطة في العراق ، كما عليه ، ان يعالج اوضاع البلاد بروحية جديدة ، وتفكير جديد ، وآليات وعناصر عدالة انتقالية من نوع جديد ، وهذا صعب تحقيقه ابدا ، خصوصا ان بقيت السياقات موجودة نفسها ، وان انحصرت “المسألة” في اسماء كالتي نجدها اليوم تتطلّع الى هذا ” المكان ” او تحلم به ، وخصوصا من الاحزاب والتكتلات والتحالفات الدينية ..
حالم بالزعامة يطلب مني النصيحة !
دعوني الان ، اقدّم لكم هذا المشهد الحقيقي الذي حدث مؤخرا وجاء صدفة ..
التقيت قبل يومين بسياسي عراقي يطمح الى زعامة العراق ، ويحلم ان يكون بديلا عن رئيس الوزراء الحالي ، وشربنا القهوة معا ، ثم طلب منّي ان اشير عليه بالنصيحة اذا ما فاز برئاسة مجلس الوزراء واصبح سيدا للعراق والعراقيين ، فأجبته : انني لا ابيع نصائح ، بل اقترح عليك بعض الاقتراحات .. قال : انني أسألك كمؤرخ اشتغلت على تاريخ العراق لما يمكن ان افعله في مواجهة اربع سنوات قادمة ؟ اجبته : سأسمح لنفسي ان اتخيّلك وقد صرت كذلك وانا اشكّ في حدوث ذلك ، فربما صار اليها غيرك من العراقيين عسكريا كان مدنيا ، اذ اننّي سأنشر ما اقوله لك على العالم .. وتابعت مستطردا : نصيحتي الى اي زعيم قادم كي يسمعها ويعمل بها .. قائلا : عليك ان تكون مؤهّلا لتحمّل المسؤوليّة بما فيه الكفاية ، كي تجدّد افكارك ، وترسم لك مشروعك الوطني ضمن مبادئ عراقية صرفة لتقف بالضد من نقائضها اليوم ، وهي: الوطنية بديلا عن الطائفية .. النزاهة بديلا عن الفساد .. الامن بديلا عن الارهاب ، النظام بديلا عن الفوضى .. المصالحة بديلا عن الصراعات .. الاعمار بديلا عن الدمار !
وعليك الاستفادة من بعض حكام العراق السابقين .. ما الذي ميّز بعضهم ايجابيا ، وما الذي اتّصفوا به سلبياً على مدى مائة سنة منصرمة ، ثم تتّعلم من تجاربهم دروسا ، وستجد نفسك وقد جمعتهم كلهم كي تختطّ لك طريقا ، او ترسم لك منهجاً لا تحيد عنه ابداً مهما كانت قاسية عليك .
ممّن يتعلّم الزعيم القادم ان كان جديدا ؟
قلت : تعلم من فيصل الاول الحكمة واستشارة الحكماء والخبراء ، ولكن لا تأخذ منه ثقته بالأخرين .. وتعلّم من غازي الاول الوطنيّة وكراهيّة الانكليز ، ولكن لا تأخذ منه زجّه العسكر بالسياسة . وتعلّم من نوري السعيد الدهاء والظرافة وسرعة البديهة ومشروع الاعمار ، ولكن لا تكن عنيدا مثله ومبعدا للجيل الجديد واقصاء اليسار .وتعلّم من عبد الاله الكتمان والصبر ، ولكن لا تكن في برج عاجيّ مثله.. وتعلّم من فيصل الثاني دستوريته وثقافته وابتسامته ورقته ، ولكن لا تكن مثله عندما وثق بجنرالات جيشه ! وتعلّم من عبد الكريم قاسم حبه للفقراء والمحرومين ، ولا تكن مهووسا بحب نفسك وزعيما اوحدا مثله ، وتعلّم من عبد السلام عارف شجاعته ، ولكن لا تكن متهوّرا وسوقي الكلمات مثله. وتعلّم من عبد الرحمن عارف سماحته وطيبته ، ولكن لا تكن ضعيفا مثله امام خصومه . وتعلّم من عبد الرحمن البزّاز حنكته ورزانته ، ولكن لا تكن مطيعا للعسكر مثله . ولا تكن ضعيفا امام نائبك مثل احمد حسن البكر ، ولا تكن مستبدّا بسياستك ، ولا مخيفا ، او فاشلا في صنع قراراتك مثل صدام حسين . وتابعت اقول : تعلّم من اياد علاوي سماحته وانتقاليته ، ولكن لا تضيّع الفرص السانحة كما ضاعت عليه . ولا تكن كسولا فاشلا وليس لك الا الهذيان كما كان الجعفري .. وتعلّم من مسعود بارزاني كيف نجح في بناء “دولته ” ، ولكن لا تأخذ منه تقديمه كردستان على العراق . ولا تتعلّم ايّ شيء قط من المالكي ، فليس له ما يمكن الاقتداء به بالرغم من اطلاقه صفة ” مختار العصر ” على شخصيّته !
وهناك زعماء من غير العراقيين باستطاعتك ان تتعلّم منهم كثيرا ايضا ، فربما افادتك مبادئ المهاتما غاندي السلمية ، او افادتك المبادئ الكمالية الستة التي اعتمدها اتاتورك ، واهمها العلمنة والدستورية والدولتية .. وتتعلّم من بورقيبة تفكيره السياسي وتحريره للمرأة .. وتتعلّم من جمال عبد الناصر كيف صنع كاريزميته وجذبه الملايين لسماع خطاباته .. وتتعلّم من الملك حسين بن طلال اسلوبه المتسامح مع معارضيه السياسيين .. وتتعلّم من شارل ديغول كيفية اعادته بناء فرنسا .. وتتعلّم من نيلسون مانديلا تواضعه وسماحته مع خصومه وسجّانيه السابقين .. وتتعلّم من ماركريت تاتشر صرامتها في مكافحة الفساد وتنظيم المؤسسّات .. وتتعلّم من الشيخ زايد آل نهيان عنايته بشعبه عناية بالغة ، واحيائه الصحراء ومحبته للأشجار .. وتتّعلم من تاريخ زعماء كثر وتستفيد من تجاربهم ، شرط ان لا تكون ضمن ايّة جوقة سياسية طائفيّة ، ولا ايّة بقايا حزبية ، او تكتّلات شعبوية عفا عليها الزمن .. واعرف من ايّ طرف يأتي الخطر على العراق .. ومن هذا الذي له مصلحة حقيقية في قتل العراقيين وتقسيم العراق..
واخيرا : ان تعمل لتغيير العملية السياسيّة الحالية ، وكن صاحب مشروع في التغيير الجذري والقضاء على آثار كل ما افرزته نتائج عشر سنوات عجاف مضت .. فربما ساعدك ذلك على حكم العراق ، واخراجه من المأزق الذي وضع فيه . فهل ستنجح في ذلك ؟ الايام القادمة طالت ام قصرت ، ستكشف عن المفاجأة التي بات ينتظرها اغلب العراقيين .
نشرت في جريدة المدى العراقية ، بغداد في 24 شباط / فبراير 2014 .
http://www.almadapaper.net/ar/ViewPrintedIssue.aspx?PageID=8012&IssueID=407
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
وأيضا على صفحاته في الفيس بوك وتويتر ومواقع اخرى ..
شاهد أيضاً
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …