الرئيسية / الرئيسية / عبد القادر القط : استاذ الادب العربي والنقد المقارن مفهوم تأصيلي ومشروع عربي في النقد الادبي

عبد القادر القط : استاذ الادب العربي والنقد المقارن مفهوم تأصيلي ومشروع عربي في النقد الادبي


“أهم ما أعتز به هو الميل إلى الجديد والميل إلى الأجيال التي تحمل شعلة الحضارة الجديدة”
عبد القادر القط

لم أكن اتذكر اسمه عندما التقيت بالرجل لأول مرة ، ولم اكن الا عاشقا للأدب العربي ومن هواة صنوفه وميادينه وفلواته .. عندما رأيته لأول مرة خذلني مرآه المتواضع ، ولكنني اعجبت بعقليته الباهرة وكلامه المنمّق .. تذكرت اسمه عندما راجعت ذاكرتي من قبل سنين مضت . كيف ؟
كنت في جدال غير متكافئ مع واحد من اساتذتي في كلية الاداب بجامعة الموصل ، وهو من الذين نازعتهم في الادب ، وانا لم اتجاوز العشرين من العمر وفي السنة الاولى من سني الجامعة عندما كتبت ونشرت مقالة نقدية صارخة في واحدة من المجلات ، وكنت قاسيا على مجموعة قصصية نشرها ذلك الاستاذ – ولكن سيغدو ذلك الاستاذ الخصم واحدا من زملائي لاحقا ، يعزني ويقدرني بعد ان دارت السنوات دورتها وغدوت مدرسا في الكلية نفسها – .. بعد ان نشرت مقالتي في النقد الادبي ضد مجموعته القصصية ، لمحني واتى مسرعا ليحدث بيننا امام جمع الطلبة والطالبات ولفيف من الاساتذة ما يشبه الخصام الحاد والجدال العنيف، ولأول مرة يخاطبني قائلا : اتدري من ذا الذي اعجب بهذه القصص التي انتقدتها يا سيار نقدا مبرحا ؟ انه استاذنا القط ! وقت ذاك ، اجبته ببرود وبتعليق قاس أنني اعرف الهرّ ولكنني لم اعرف القط ، فازداد غلظة وتوحشا وتحرقا – وتفاصيل لا محل لذكرها الان – ومضى كلّ منّا الى سبيله بعد ان غدا ذلك ” الحدث” حديث كل المثقفين والادباء في البلد عام 1970 .. كيف ان طالبا جامعيا في مقتبل العمر يشاكس استاذه الذي كان رئيسا لقسم اللغة العربية وآدابها وينتقد عملا ابداعيا له اثنى عليه القط ! وبقى الاسم ببالي ، وعدت ابحث عن اعمال هذا الاخير الاستاذ عبد القادر القط لأقف على بعضها ، فهالني انتاجه ، واعجبت بأسلوبه وخصوبة تفكيره !

لقاء مع الاستاذ القط
مضت سنوات ، ولا ادري في اي سنة التقيت الاستاذ عبد القادر القط ، اذ كانت لي عدة زيارات للعاصمة النمساوية فيينا من اجل استخدام بعض الكتب والمخطوطات والوثائق التاريخية التي تركها المؤرخ والدبلوماسي الشهير فون هامر بورجشتال في خزانات معينة من المكتبة الوطنية بفيينا ، وكنت اشتغل على اطروحتي في الدكتوراه ببريطانيا .. وفي احد الايام من اكتوبر سنة 1978 او سبتمبر 1980 ، لا اتذكر بالضبط ، كنت محشورا بين رفوف تلك المكتبة العريقة النمساوية ، فلمحت عن بعد رجلا وقورا كبير السن وبهيئته العربية المصرية البسيطة ، فجذبني مرآه وتحادثنا قليلا .. وبعد ساعة من الزمن ، كنا نجلس معا بضيافة البروفيسور اوتو مازال الامين العام للمكتبة الوطنية بفيينا ( الذي سأفرد حلقة من ذكرياتي عنه ) كنت اجلس قبالة الاستاذ القط وبرفقته زوجته التي لم تكن تجيد العامية المصرية بطلاقة وكأن غربتنا ، الاستاذ القط وانا تترجم ما كان يقوله شاعرنا الكبير جميل صدقي الزهاوي بأن ” الغريب للغريب نسيب ” ، وازداد اهتمامي بالرجل عندما قال بأنه : عبد القادر القط ، فحكيت له كيف سمعت اسمه لأول مرة قبل سنوات ، وعرف طالبه ذاك الذي خاصمني وهو استاذ لي ، فقال : اسمع يا بني ان المثقف العربي ثلاثة اصناف : صنف فنان في كتابته وعادي في شفويته ، وصنف فنان في شفويته وعادي في كتابته ، ولكن المثقف الحقيقي من جمع فنه بين القلم والخطاب معا ! عقبت عليه قائلا : ونسيت يا استاذنا الصنف الرابع: يتمثل بلا هذا ولا ذاك ولا الاثنين معا ! ومنذ تلك اللحظة لم انس عبارة الاستاذ القط هذه ابدا . وكنت أود ان ألقى الرجل ثانية وثالثة اثناء زياراتي لمصر الكنانة لاحقا ، الا ان المشاغل كانت تأخذني ذات اليمين او ذات الشمال ، ما خلا من معايدات في الاعياد والمناسبات لحين من الزمن .

وقفة مختزلة عند سيرة حياته :
ولد البحاثة والناقد الاديب الاستاذ الدكتور عبد القادر القط في العاشر من إبريل / نيسان العام 1916 في قرية (المعصرة) الواقعة بمحافظة الدقهلية في مصر العربية . وكان ان صدم منذ طفولته بفقدان امه فترك ذلك الحدث أثرا مؤلما في نفسه وهو لم يتجاوز العشر سنين من العمر . وكان ذلك بمثابة أحد اهم التحديات التي ساعدته في التغلب على مصاعب من نوع اقسى – كما قال لي وهو ينظر بعيدا في الافق البعيد – ، تابع دراسته وحصل القط على شهادة البكالوريا من المدرسة التوفيقية العام 1934 ، ثم التحق بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة فؤاد الاول ، ليتلقى العلم على أيدي كل من الاساتذة الكبار : طه حسين وأحمد أمين وأمين الخولي ومصطفى عبد الرازق وغيرهم من رجالات الأدب والعلم والفلسفة في القاهرة ابان عقدي الثلاثينيات وألاربعينيات من القرن العشرين. وبعد اكمال الليسانس ، عمل القط في التدريس ردحا من الزمن ، وهو يتابع شؤون الادب والنقد وكانت حالة القاهرة ثقافيا وقت ذاك في ابهى صورها .
وفي العام 1945 سافر القط في بعثة علمية لدراسة الأدب العربي في انكلترا ، وانخرط تحت اشراف المستشرق الكبير البروفيسور آربري المتخصص في شؤون الآداب الشرقية والادب العربي خاصة ، ولقد تعلم القط من استاذه منهجا جديدا في الدراسة مضيفا اياه الى المنهج الاخر الذي كان قد استلهمه من استاذه الاقدم طه حسين .. وحصل القط على درجة الدكتوراه في الأدب المقارن ، بعد ان دافع عن اطروحته القيمة الموسومة : ” مفهوم الشعر عند العرب كما يتمثل في كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري ” . وفي العام 1950 ، عاد هذا المثقف المتخصص الجديد إلى القاهرة ليعمل في رحاب كلية الآداب بجامعة عين شمس التي كانت تحت التأسيس ابان رئاسة الدكتور مهدي علام لها . ولقد تدرج القط في المواقع الوظيفية حتى منصب العميد ، وفي المواقع الاكاديمية حتى نال الاستاذية عن جدارة .. وفي السياق نفسه ترأس الاستاذ القط تحرير أربع مجلات ثقافية مشهورة هي مجلة (المجلة) و(الشعر) و(المسرح)و(إبداع).. وفي كل هذه المجلات إنحاز الرجل للتجديد في اتجاهات الشعر العربي إنحيازا كبيرا في وقت كان الغير من اساطين الثقافة يعادون التجديد ويحاربون كل جديد ومنحازين للاتجاهات التقليدية والقديمة التي اكل الدهر عليها وشرب !
والدكتور القط من جانب آخر ، شاعر مقلّ في شعره ، وله ديوان شعري وحيد اسمه ” ذكريات شاب ” ، ولكن كان باعه كبيرا في النقد والادب ومفهوم الشعر وخطابه ، وله العديد من الكتب النقدية والاعمال المختصة والثقافية ، منها : ” الاتجاه الوجداني في الشعر العربي ” و ” مفهوم الشعر عند العرب ” و ” في الشعر الإسلامي والأموي ” و ” الكلمة والصورة ” و ” قضايا ومواقف ” و ” في الأدب المصري المعاصر ” وغيرها من الكتب والترجمات.
ثمة تحولات سياسية وثقافية في حياة هذا المثقف المبدع ابان القرن العشرين ، اذ كان معاصرا لأغلب التحولات السياسية والتطورات الثقافية العربية وخصوصا في مصر . وكان ان انخرط القط وهو شاب ، عضوا في حزب الوفد في البداية ، ثم تركه لينتظم سنوات طويلة في حزب مصر الفتاة ، ثم تركه أيضا برغم علاقته الوثيقة بكل من أحمد حسين وفتحي رضوان. ويبدو أن عبد القادر القط الشاعر والناقد والمثقف لم يحتمل العمل السياسي بكل مكره والاعيبه وفجاجته وان يكون عضوا في تنظيمات حزبية مهما كانت ليبراليتها ، فآثر أن يكون مستقلا ومنحازا لنخبة مثقفة عربية عاقلة تؤمن حقيقة بمبادئ الديمقراطية والعدل الاجتماعي والاستقلال الوطني والاستنارة الفكرية .
وبرغم ما شهده عبد القادر القط بعد ذلك من تحولات ومتغيرات في مصر سميّت بالثورية اثر ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 .. فلقد كان العمل الاكاديمي والثقافي يأخذ وقته ، ومن ذلك اشرافه على الرسائل العلمية التي لا تعد ولا تحصى . اما في المجال الثقافي ، فلقد غدا رئيسا لتحرير مجلة (المجلة) ، وكان يكن لأساتذته وزملائه الحقيقيين كل التقدير والمحبة ، وهم : طه حسين ومحمد مندور ولويس عوض وأمين الخولي وعبد الوهاب عزام وغيرهم, وعاش صراع الرومانسية المصرية التي تبلورت في (أبولو) وغيرها ضد مدرسة (الاحياء) الكلاسيكية ومدرسة (الديوان)، كما عاصر صراع القصيدة الجديدة, قصيدة الشعر الحر مع انصار العمود الشعري القديم بكل أشكاله، ولاشك أن هذا كله كان له أكبر الأثر في تفكير القط ومنهجه النقدي ومواقفه الفكرية..
كان متأثرا ومؤثرا إلى أبعد مدى خصوصا وأن الدكتور القط لم يكتف فقط بالموقع الجامعي بل تجاوزه إلى الحركة الأدبية الواسعة فكان أحد أهم مؤسسي الندوة الأدبية الشهيرة التي كانت تقام على مقهى عبد الله بالجيزة في عقد الخمسينيات وكان من روادها نخبة من الادباء والمثقفين ، منهم : أحمد عبد المعطي حجازي ورجاء النقاش وأنور المعداوي ومحمود السعدني وزكريا الحجاوي ولويس عوض ومحمد مندور وأحمد عباس صالح وغيرهم, وكانت هذه الندوة التي امتدت لسنوات طويلة مدرسة تخرّج فيها أجيال عديدة من الأدباء المصريين أصبحوا فيما بعد رموز الثقافة المصرية والعربية.
اقول ، لقد زخرت حياة عبد القادر القط كاملة بالعمل والنشاط الدؤوب ولقد غادرنا مؤخرا الى دار البقاء ، اذ توفي العام 2002 اثر مرض لم يمهله ابدا ، فترك في نفوس محبيه وطلبته وعشاق كتاباته حسرة وألم ولوعة ولم يزل يتذكره طلبته وعدد كبير من قرائه .

ما يعجبني في القط
ان اثمن ما يمكنني الاعتزاز به في هذا الرجل المختص انه واسع المعرفة وغزير المعلومات في بحر الادب العربي قديمه وحديثه ، عناصره واصنافه ، ولقد وجدت ان تفكيره له خصبه وحيويته بفعل طلبه العلم عند ابرز استاذين عالمين كبيرين مصري كطه حسين وبريطاني كاربري ، واستفاد من منهجين قويين : فرنسي وبريطاني .. لم يكن شاعرا من فحول الشعراء ، بل طبع ديوانا له كي يعرف الناس ان له ملكة شعرية معينة ! عندما سألته عن ذاك الذي خرج به في دراسته كتاب الموازنة في النقد الادبي للشعر العربي القديم ، اذكر انه اجاب : مفهوم المنهج وكررها . لكننا لم نجده قد التزم بتطبيق ذلك المنهج ، بل اتبع مناهج اخرى في نقد الشعر ، اذ انه تعلم من المفهوم ما مكنه من ارساء نزعة تأصيلية في النقد العربي الحديث .. فهو لم يتبع وحدة البيت الشعري ، بل اتبع وحدة القصيدة الشعرية .. نظرا لاختلاف العصر علما بأن الوحدة الاولى اصعب بكثير من الوحدة الثانية . وعبد القادر القط ابدع في الانحياز المؤثر للجديد من الادب العربي ، ولم يقف تخصصه حجر عثرة في طريقه ، كما انه لم يكن معقدا جدا وضيق المساحة في تحركه ..
كان ينتقل من حقل الى اخر ومن بستان الى اخرى . نعم ، لقد بدأ عبد القادر القط بتراث النقد القديم واتقنه لينتقل إلى آفاق العصر وكل مجالات الإبداع العالمي والمعاصر . وهكذا ، فقد عالج مشروعه النقدي التراث العربي والآداب العالمية والنقد الأوروبي والآداب العربية المعاصرة بكل ما تزدحم به من تيارات متضادة ومنتجات متفاعلة . ان مشروعه يمثل حركة تجديدية رائدة في الابداع الشعري منذ بواكير عقد الخمسينيات .. وكان القط ايضا ، أول ناقد عربي يهتم بالمسلسل التليفزيوني – كما ذكر ذلك لي – ويعامله باحترام كما شجع المبدعين من الشباب ويحرص على ربط مشروعه الخاص بالمشروع الثقافي العام ، فكان واحدا من الذين حملوا المسئولية بعد طه حسين – على حد ما يقوله جابر عصفور فيه – ما يعجبني فيه ايضا ، انه لم يبق في جلباب ( الاكاديمية ) العربية المنفوخة الكاذبة الذي لبسه العشرات ، بل المئات من الذين اطلق عليهم بـ ” المتخصصين الاكاديميين ” ! .. بل نزل من البرج العاجي ليتعامل مع الصحافة اليومية والاسبوعية من اجل خدمة المجتمع خدمة حقيقية !
لقد كان عبد القادر القط ابنا حقيقيا وبارا للمجتمع التي تربى في احضانه ، اذ كان عضوا فاعلا فيه يتحرك في كل جنباته وهذا ما يعرفه الجميع عنه ، لا يفرق بين الكبار والصغار واهم قيمة يمتلكها الرجل هو تشجيعه المتواصل للجيل الجديد .. اما مشروعه ، فانه قد ارسى من خلاله جملة من المبادئ والافكار والرؤى التي يحملها اليوم العدد الكبير من اولئك الذين تخرجوا من تحت عباءته وبرغم اختلاف الاخرين من النقاد والادباء عنه في اسلوبه وطريقة محاكاته للنص وصاحبه ، فالسبب واضح اشد الوضوح لكل من يراقب جزئيات تفكير عبد القادر القط وتكويناته الاولى ، ذلك انه اذا برع في نقد القصة والمسرح والرواية .. فضلا عن الشعر والملاحم .. وان له ميزة استثناء قلما يقدرها الاخرون ، فالرجل يتحرك على قاعدة قوية من الاصول القديمة وانه استوعب كل الحداثة فمزج في مشروعه بين الاثنين بأقصى درجة من القوة والمنعة فابدع في ذلك ابداعا لم يبدع في ذلك غيره ابدا ! وقلما نجد من يجمع التخصصات قديمها وحديثها معا ، ومن يجمع ذلك في الآداب وعلوم التاريخ ، فانه يمتلك مقدرة لا يمتلكها الاخرون .. وهذا ما قد يفوت تقديره عند الاخرين .
واخيرا
لابد لي ان اقول ، صحيح انني التقيت به مرة واحدة والتقيت بغيره مرة ومرات ، الا انني كثيرا ما اردد مقولة ابن حزم الاندلسي في ” طوق الحمامة ” عندما قال : ” لقد منحني الله عز وجل من الوفاء لكل من يمّت اليّ بلقيا واحدة .. ” . وآخر ما يمكنني ذكره ان تحفظ لهذا الرجل القدير ذكراه وان تستفيد الاجيال من جهوده ومن مشروعه النقدي الذكي ..
رحم الله عبد القادر القط رحمة كبيرة .

( فصلة من كتاب الدكتور سيّار الجميل ، نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية – قيد النشر-)
نشرت لأول مرة في الاسرة العصرية ، مؤسسة البيان ، دبي ، يونيو 2003 .
واعيد نشرها على الحوار المتمدن ، العدد: 1033 – في 30 / 11 / 2004 .
ويعاد نشرها اليوم على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟

رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …