الرئيسية / افكار / مشروعية التغيير التاريخي.. رؤية كاشفة

مشروعية التغيير التاريخي.. رؤية كاشفة


التغيير أقوى من كل الاجندات
كنت انتظر حدوث التغيير منذ سنين ، بل وكنت قد توقعّت حدوث الاهتزاز الكبير وانبثاق فجر جديد للتاريخ ، بعد طي صفحة مرحلة أصبحت قديمة ومتهرئة منذ سنين .. كنت قد توقعت أن سيبدأ التاريخ مع نهاية العام 2009 ، ولكنه تأخر عن موعده سنة كاملة ليحدث مع بدايات العام 2011 .. إن مرحلة تاريخية كانت في طريقها إلى الأفول بانتظار مرحلة تاريخية جديدة لثلاثين سنة قادمة ، ذلك أن مرحلة جيل مضى لثلاثين سنة راحلة والتي بدأت مع العام 1979 ينبغي أن ترحل غير مأسوف عليها أبدا ، إذ ازدحمت بالأحداث الساخنة ، والحروب الدموية ، والصراعات السياسية ، والآلام الاجتماعية ، والتناقضات الثقافية ، والانسحاقات الاقتصادية .. ووقف على رأس السلطات زعماء وما كلهم بزعماء ، إذ لا يمكن اعتبارهم بعضهم ، إلا شلة من الأوصياء أو ملاك إقطاعيات كبرى ، أو رؤساء قبائل رعوية ، أو ضباط عسكر حمقى ، أو عصبة رجال دين جهلة .. ناهيكم عن شخصيات بليدة لا تعرف الواقع ولم تدرس التاريخ ولا الجغرافية .. فكيف ستكون أنظمة حكم تستمر وتحيا منذ سنوات أو تفرض هيمنتها بالقوة على مدى عشرات السنين ؟ إنها أنظمة متحجرة أو متيبسة عن منطق العصر .. انها لم تجد فرصتها في الحياة إلا من خلال الشعارات الكاذبة التي ترفعها ، أو من خلال الدعايات الخادعة عنها والتي ترفعها بين الناس .. إن التغيير التاريخي الذي تصنعه إرادات الشعوب هو حصيلة مثمرة لنضال ومعاناة الإنسان ونهجه وتفكيره ورؤيته .. او ما يختزنه من التجارب والتأثيرات .

جيل القوى الشابة : موديل مرحلة جديدة
ان الجيل الجديد وليد تكوين المرحلة الماضية ، وكان شاهدا حيا على خطورة المرحلة من كل النواحي .. والمفترض أن مؤسسات كل دولة من دولنا تطرح برامج عمل جديدة لكل مرحلة جديدة ، ولكن لما كانت دولنا ضعيفة المؤسسات ومهترئة التفكير ، فهي لا تعرف أبدا العمل من تلقاء نفسها ، كما هو الحال في بلدان العالم الاخرى ، فان المجتمعات تقوم بالاعلان عن ضرورات التغيير بعد أن تنجح في إرادة توحدها ومشروعية تكوينها .. وهذا ما حصل ويحصل الآن مع توالي الأيام من العام 2011 في عدة بلدان كتونس ومصر وليبيا .. ومن سيلحق بهذه التغييرات التي تختلف تماما في رؤيتها ووسائلها وأدواتها عن أساليب التغيير التي حدثت في القرن العشرين .
إن موديل المرحلة الجديدة يتمثل بالقوى الجديدة من الشباب المدنيين ، وليس كتلك المرحلتين السابقتين : مرحلة الضباط الأحرار من العسكريتاريا اثر الحرب العالمية الثانية عقب العام 1949 ، ومرحلة رجال الدين اثر الثورة الإيرانية عام 1979 .. نحن الآن أمام مرحلة جديدة لجيل جديد لثورة مدنية تجتاح كل عالمنا العربي عام 2011 .. وستمتد هذه المرحلة لثلاثين سنة قادمة تزدحم بالمتغيرات التاريخية التي ربما تكون أسرع خطى من تلك المراحل التي سبقتها في القرن العشرين ، ولكن ، علينا أن لا نكون حالمين بالتغيير الجذري لكل أنظمة التفكير وأساليب الحياة ، بل أن المتغيرات ستطال الأنظمة السياسية لصالح الحريات المدنية ، واستكشاف الذات وتصادم التناقضات التي ولدتها رواسب الماضي العقيم بكل التشوهات التي افرزها واقع الحاضر الأليم .

التغيرات التاريخية المتوقعة منذ سنوات مضت
لقد قلت في مقال عنوانه ” القوى الجديدة في المجتمع العربي : ارتسامات للمستقبل الآتي ” نشر في البيان الإماراتية 2006 النص التالي : ” الآن: ما الذي نريده من الأجيال القادمة ؟ و من ذا الذي سيفوز في نهاية المطاف؟
إن القوى النخبوية والقوى الجماهيرية المشبعة ببقايا ومخلفات القرن العشرين لابد أن تعي بأن العزلة سوف لا توفر لها أبدا لا الحركة ولا الفرص ولا المعرفة .. ولكن بعد أن تأخذ حالة صراع المستويات لها دورها في التصادم.. وبعد مضي زمن فرض الإرادة لما تحتاجه مجتمعاتنا اليوم. إن القوى الجديدة ستتوالد من خلال تبلور واضح لانقسام الذات القادمة بين “الأنا” و”الآخر” أو “النحن” و”الآخرين”.. وستنبثق ثنائية جدلية سيبقى سجالها مريرا إزاء ابرز المشاكل والمعضلات! قوى ستختزل نفسها في اتجاهين اثنين سيأكل احدهما الآخر في نهاية المطاف . وعليه ، نتمنى أن تلتئم النخب الفكرية والمثقفة مع القوى الجماهيرية الأولى مذ تبدأ مجتمعاتنا حياتها مع الميديا المتطورة وتكنولوجيا المعلومات .. فهل ستدرك ما تحتاجه أساسا في تكوين مستقبلها ؟ كيف باستطاعتها أن تكون قوى حيوية ومنتجة أولا ؟ وكيف باستطاعتها أن تفرض نفسها على العالم ثانيا بشخصيتها هي نفسها لا بشخصيات مزيفة ؟ ( البيان الاماراتية ، 15 مارس 2006 ) .

التوقع بشمولية التغييرات لكل الارض العربية
وقلت في مقال آخر بعد سنتين عنوانه ( 2009 : مواجهة التحديات الصعبة ) : ” منذ زمن طويل جدا، وأنا أترقب ما سيصادفه العالم في العام 2009، إذ كتبت قائلا بأن العالم سيبدأ تاريخا جديدا من عند مخاضاته الخطيرة.. وها نحن نوّدع العام 2008 بكل أحداثه الصعبة، واضطراباته المريرة، التي ستولد من رحمها خيبات الأمل لما سيجنيه العالم عام 2009. فهل تكّيف العالم حقا لسوء العواقب، أم أنه باق رهين التفاؤل الكاذب؟ …. نعم، سينشغل العالم الإسلامي سياسيا ومحليا بتموجاته ومشكلاته …. ولعل اخطر ما واجهه العالم عام 1979 سيختتم مرحلة التخضرم بين قرنين مع 2009 التي ستشهد ـ كما اعتقد ـ مفاجآت تاريخية كبيرة، ليس بتوقيع صلح سوري مع إسرائيل، وليس برحيل ملكة قديمة عن عرشها ! ولكن بمرور أيام تهز العالم العربي هزّا عنيفا.. كل التوقعات واردة بصدد حرائق تصيب الشرق الأوسط، وسقوط انظمة سياسية استمرت منذ 30 سنة …. دعونا نتأمل في كيفية مشاركة العالم هواجسه من اجل أن تنعم الأرض بفرص بديلة نحو الأفضل، وأن ندعو لإيجاد حلول وسياسات إستراتيجية لإعادة التوازن وتنشيط الزراعة وحماية البيئة وتنمية الإنتاج.. وينبغي أن يكون التغيير شاملا لكل أصقاع الأرض العربية من دون حصره في بلد معين.. إننا بحاجة ماسة اليوم إلى تقارير خبراء عقلاء لا إلى قرارات ساسة بلهاء، وأن ينضج أكثر من برنامج عمل، يدعو للإصلاح والاعمار والسلام، بديلاً عن كل الفرص الضائعة ” . (البيان الإماراتية، 31 ديسمبر 2008 ) .

كيف نواجه التغيير التاريخي ؟
نحن في مجتمعاتنا العربية ازاء مواجهة حقيقية مع المستقبل .. ونحن ازاء هذا العالم كله الذي يقف مشدوها ازاء ما يحدث في عواصمنا ومدننا العربية وبشكل غير متوقع ابدا .. ونحن ازاء حكومات عربية وانظمة سياسية وامام زعماء .. لم يتوقعوا ابدا حدوث مثل هذا الزلزال الذي يمتد يوما بعد آخر في كل مكان .. ونحن ازاء مفاجئات جديدة لم يكن لأحد ان يتوقعها ابدا .. ونحن امام تداعيات قوى جديدة فعلا في المجتمع ، تجد نفسها لأول مرة ازاء مسؤوليات خطيرة ، واخشى ما تخشاه ان تعيش فراغا سياسيا او فكريا ، فليس هنام حتى يومنا هذا أي برنامج لما يمكن عمله في أي بقعة من البلاد العربية . وعليه ، فسيتم التعويل على ابناء الجيل القديم لملأ الفراغات التي حدثت وستحدث في أي مكان ! ان اخطر مشكلة تواجهها القوى الجديدة انها لم تبلور حتى يومنا هذا نظرية او اكثر ، يمكن التعويل عليها في ارساء اسس جديدة للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية .. فضلا عن ان ثمة مخاوف من تدخلات خارجية في حال وجود مشكلات صعبة لم تحسمها القوى الجديدة للتغيير ..
إن الهواجس التي تعتري أي مواطن مفكر عربي مخلص ان لا تكون هناك ثمة أجندة خارجية ستمارس بعد أن تقتطف ثمرات التغيير الذي سعى من اجله المخلصون ، وناضل من اجله الناس ، وانتظر أيامه كل أولئك المضطهدين الذين سحقوا من قبل الطغاة والطفيليين والمتحزبين والغلاة والطائفيين والجهلة المارقين .. إنني انبّه الى ان يتم الإسراع بتشكيل قوى سياسية جديدة تملأ الفراغ ان حدث ، فضلا عن الحفاظ على وحدة أراضي كل بلد عربي خوف التشظي والانقسام ـ لا سمح الله ـ ، فكل البلدان العربية مؤهلة ، بل وقد أصبحت طازجة للتفكك والتجزؤ ، وخصوصا الدول المركبة في الاصل كالسعودية وليبيا والسودان واليمن .. ، ثم اتحدّت بصيغة او باخرى من خلال إعادة تكوينها في القرن العشرين .. واذا كان العراق قد صمد حتى اليوم ازاء هجمة التجزئة نظرا لقوته التاريخية وتماسكه الجغرافي ، فان بلدانا عربية اخرى هي على شفا هاوية ومرشحّة للذوبان . كما أتمنى على من تبقى من الزعماء العرب ان لا تغرنهم المظاهر ، ولا القوى الأجنبية أو الإقليمية التي يعولون على حمايتها .. فكل شيء قابل للتغيير اليوم ، وبصورة لا يمكن تخيلها أو توقعها أبدا .

وأخيرا : المستقبل قبل الماضي
إن دروس اليوم التاريخية هي ثمينة جدا ، وهي مختلفة تماما عن تلك التي حفلت بها متغيرات القرن العشرين .. إن مجتمعاتنا اليوم قادرة على تشكيل إراداتها الجمعية ، بفضل القوى الجديدة في المجتمع ، ودور الوسائل الحديثة والمعاصرة التي لم يستطع أبناء الأجيال القديمة استيعابها .. إن المستقبل قبل الماضي إزاء الشعوب اليوم ، واعتقد أن الشعوب في عالمنا ستتخلص من رواسب تاريخية وبقايا القرن العشرين التي فتكت بنا فتكا ذريعا ، وستجد نفسها بعد ثلاثين سنة تصفق للتغييرات التاريخية وتستهزئ بتفاهات القرن العشرين ، إن استطاعت أن تتوغل بعيدا معتمدة على نفسها في تأسيس تاريخ جديد..

نشرت في الصباح البغدادية ( عمود : مكاشفات عراقية ) 3 آذار / مارس 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …