بكل بساطة ويسر ، يعلن الرئيس الأميركي باراك اوباما أن ” حرب العراق تضع أوزارها ” ، وانه ” أوفى بتعهده .. ” وهو يخاطب الأميركيين .. ويقول نائبه جو بايدن : ” انأ واثق تماما بأن العراق سيشكّل حكومة وحدة وطنية ستكون قادرة على تعزيز وضع هذا البلد ” . ولا ادري كم من الأغبياء سيصدق كلام الرئيس ونائبه ، ونحن نشهد العكس يحدث ، وكأن الحرب منحصرة بين دولتين وأنها بلا أية تداعيات صعبة للغاية ، وأنها كانت مجرد نزهة في بلاد السندباد البحري وألف ليلة وليلة ! ويستطرد اوباما قائلا إن العراق يستطيع أن ” يرسم مساره بنفسه ” بعد أن خرجت القوات الأميركية منه ، ولم يبق إلا اقل من خمسين ألف مقاتل على تراب العراق سيكتمل انسحابهم في العام القادم ! كل هذا يقال اليوم ، وهم الذين اسقطوا صدام حسين ونظامه ، ووعدوا العراقيين بأن يجعلوا من العراق واحة للديمقراطية في المنطقة ، وان يعيدوا اعمار ما سحقوه في حربين ضروسين ، عام 1991 عندما حرروا الكويت ، وعام 2003 عندما اسقطوا نظام صدام حسين بمباركة دولية وعربية ..
نعم ، اليوم يتحقق حلم العراقيين بخروج المحتل من أرضهم ، ولكن ما الذي تركه في العراق بعد إسقاطه النظام السابق وعلى مدى سبع أو ثماني سنوات من وجوده ؟ العراقيون خاب أملهم ، وهم متشائمون جدا للمصير الذي سيحيق بهم ! فهل هذا هو ما كان يرجوه أو يأمله كلّ العراقيين ؟ اليوم كلّ العراقيين حيارى بمصيرهم ، والى أين سيمضى نظام الحكم ، والعراق لا يملك مقومات ” دولة ” ؟ وما الدرب الذي ستنساق إليه البلاد بعد إخفاقات لا حدود لها في العملية السياسية ، وبعد خروق لا تحصى للدستور ! وبعد ترك العراق ضعيفا جدا في المنطقة التي تكثر فيها القوى المناوئة ! وبعد بعثرة الوحدة الوطنية التي يتغنى بها جو بايدن ، وتشتيت روح المواطنة بزرع مبدأ المكونات الرئيسية الثلاث ! وبعد السياسات المجنونة التي اتبعّتها أميركا في العراق اثر السقوط ، بإلغاء مؤسسات كاملة عسكرية ومدنية ، وانفلات الأمن والنظام ، وترك الحدود الخارجية مفتوحة أمام الطارئين .. وبقاء العراق بلا أية سلطة أو سيطرة ! وبعد تغلغل الإرهاب في كل شبر من ارض العراق ! فغدا العراق ماخورا يعبث به وبأمن شعبه كل الدخلاء واللقطاء ورجال المخابرات الأجنبية والميليشيات والمرتزقة من هنا أو هناك ! وبعد ترك العراق بلا أية استحقاقات له بعد أن سحقت القاصفات الأميركية مؤسساته وفجرّت بنيته الحيوية ! وبعد أن سقطت الآلاف المؤلفة من البشر وما زالوا يتساقطون ، بفعل هجمات وتفجيرات وتفخيخات لا يعرف احد مصدرها ! وبعد أن أصبح العراق بأيدي أناس لا خبرة لديهم لا في السياسة ، ولا في الإدارة ، ولا في حل الأزمات ولا ولا .. ! وبعد أن عقدتم اتفاقية أمنية في العام المنصرم لا تفي وحقوق العراق المضاعة ؟!
تركتم العراقيين منقسمين على أنفسهم جراء سياساتكم الخاطئة ! وسارعتم ، وبشكل جنوني ، في أن يصدر الساسة العراقيون دستورا مهلهلا .. وجدنا اليوم كم هي غبية بعض بنوده ! ثمّ رسمتم خارطة طريق غير ملائمة للعراق والعراقيين أبدا .. وجعلتم العراقيين ينساقون لتأييد خططكم في تأسيس نظام سياسي بهذا الشكل وبهذا المضمون ! ثمّ زرعتم أجندة المحاصصات على أساس الطائفة والأعراق ! ثمّ مزقّتم نسيج المجتمع العراقي ، واعتمدتم التمايزات بين أديان وطوائف وأعراق … بعد أن اختفت وحدة العراق بترويج الفيدرالية التي يبدو أنها فشلت فشلا ذريعا ، ولن يعد أحد يتكلّم بها إلا الأكراد ! أبعد كلّ ذلك تخرجون بعد أن تركتم العراق قاعا صفصفا ، وهو يعاني السير في مخاض صراعات دموية على السلطة والمصالح والنهب المنظّم ! بعد أن جعلتم موارد العراق وثرواته مبعثرة بيد هذا وذاك ، يتقاسمونها وكأن العراق كعكة يريدون ابتلاعها ! ماذا بعد أن تركتم العراق يسبح في بحر الظلمات ، ولا بصيص أمل في الضياء بعد سنوات تشرذم أعقبت سنوات قهر ورعب وجوع وأمراض وحروب وقسوة ؟! أبعد أن غمرتموه بأسوأ الأفكار والشعارات ، ولم تحسنوا خياراته الوطنية ولم تحترموا إرادته ، وأتيتم بأحزاب دينية تتوزع طائفيا ، وأشعلتم الصراع في ما بينها على السلطة والمصالح ! بعد أن جعلتم دول الإقليم تخترق العراق .. وتصّفي حساباتها الظالمة مع العراقيين ! بعد أن أنهيتم مأموريتكم التي وصفها الرئيس السابق دبليو بوش ” إبعاد الإرهاب عن أراضيكم ، وتصفيته على ارض العراق ” ! بعد أن استبعدتم خيرة تكنوقراط العراق عن حكمه ، وأبعدتم خبراء العراق عن بنائه وإعادة اعماره ! وجعلتم العراقيين يخشون مصيرهم ، وهم يتأرجحون في طريق مقفل أو مسدود ! بعد أن وجدتم العراق بلدا صعبا جدا ، لا يمكن أن يسير وفق خططكم العقيمة ! بعد أن تركتم الملف الأمني لأيدي شرطة وجنود عراقيين .. أصبحوا صيدا ثمينا للقناصة والتفجيرات ! وجعلتم العراقيين يخشون أن يكون العراق كله صيدا ثمينا تنهشه دول الإقليم الكبيرة ! وأخشى ما يخشاه كل العراقيين الشرفاء أن يستبدل الاحتلال باحتلال آخر ! لقد جئتم وذهبتم ، وانتم لا تعلمون شيئا عن هذه البلاد التي أذاقتكم المرارة والهوان نتيجة سوء سياستكم فيها ! بعد أن كذبتم على العراقيين أنكم ستجلبون الأمن والأمان والرفاهية .. وإذا كان الساسة العراقيون لم ينجحوا في اختيارهم أي رئيس للوزراء من بينهم منذ أشهر .. فكيف يقول اوباما أن العراق سيصنع مساره بنفسه ؟ وأين وعودكم بمنح العراق استحقاقاته في بنائه وإعادة اعماره ؟ .. هل استحقاقات العراق بعد أن يغرق في بحر الظلمات وسط تصفيق المهرجين والمارقين ؟!
نشرت في البيان الإماراتية ، 2 سبتمبر 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …