أن يكون الانقسام ديدننا ، فتلك هي معضلتنا التاريخية التي ألفناها منذ تاريخ طويل ! أن يكون التوحد نشيدنا ، فتلك هي أمنيتنا السامية التي سمعناها منذ الطفولة ، بل وسمعها الآباء منذ بواكير القرن العشرين ! أن نجابه تحدياتنا دوما ،وأن ننتصر تربويا وحضاريا بعد فشل اغلب المشروعات العربية لقرن مضى ، فذاك هو هدفنا ! أن يكون للجيل الجديد قدرته للتعامل مع الإفرازات الجديدة الصعبة التي ستولدها عقود الزمن الجديد ، فتلك هي قضايانا المزمنة .. أن يكون الغرب أزمتنا ، فتلك هي مسألتنا التي شغلت عقولنا وأفكارنا ، لأكثر من قرنين كاملين ! أن يكون لكل جيل همومه ومعاناته، فتلك هي حياتنا الصعبة منذ تشكيل دولنا الحديثة وحصولنا على استقلالاتنا الوطنية ! أن يكون تاريخنا المعاصر متاهة فسيفسائية ملونة من خشب مسّندة ، فتلك هي صناعة ” فرّق تسد ” التي عرفنا من أنجزها في الماضي ، فحافظت دولنا عليها ، بل وزادت من تكريسها في ما بينها !! أن تكون مرجعياتنا متضاربة ، فتلك هي احجيات التضاد المدمرة التي ألفتها مجتمعاتنا بقضها وقضيضها .. أن تكون إسرائيل مستثمرة لمشروعها الصهيوني ، وقد أسست نفسها على حساب ضمور المشروع النهضوي العربي المعاصر على امتداد تاريخ القرن العشرين !
أن يكون وتكون ، هي قصة لا نهاية لها أبدا إذا ما تلوتها ! وكثيرا ما يتوقف العرب ، كما تعودوا ، عند نتائج الأمور من دون بحث الأسباب والعلل ! وكثيرا ما نتشدق بالأمثال ، والقصص ، والنصوص ، والحكايات ، والمواعظ التي لا تنتهي جلساتها إلى شيء يمكن أن يؤثر في صناعة مستقبلنا ، الذي يريده البعض مجردا من كل القيم والمعاني والأفعال العملية ! وكثيرا ما اجتمعوا لكي يقولوا ويتكلموا ، ويهتفوا وينفعلوا كثيرا دون أن يعملوا ويفعلوا ويؤثروا في شيء من الأشياء ، كما يؤكد ذلك أحد الزعماء البناة العرب المعاصرين ! ويضيف ـ رحمه الله ـ ” وكثيرا ما يصنع العرب لأنفسهم ، مشكلات تتلبسها الشكوك والالتباسات باسم المؤامرات والتحديات ” ! وأضيف أنهم مغرمون بالبطولات الزائفة ، فيصنعون لهم أصناما يعبدونها ، ثمّ يحطمونها ويلعنونها ! وكثيرا ما نذكي عقول صغارنا بالشعارات المعسولة والكلمات البراقة من دون أي أفعال ! وكثيرا ما نهتم بالأشكال والدعايات والإشاعات والكتابات الإنشائية الفضفاضة من دون التحقق من نقد المعاني وفحص المضامين ! وكثيرا ما نخلق لأنفسنا أعداء وهميين .. وننسى ما لمجتمعاتنا من مخاطر داخلية وأوجاع وآلام ! وكثيرا ما انقسم العرب وتحزبوا وتخاصموا وتنازعوا وتشاتموا فيما بينهم من دون أي رادع أو إحساس أو مسؤولية بما يفعلون ! وكثيرا ما يرتكبون أخطاء ، ولكنهم لا يعترفون بذلك ، إذ تأخذهم العزة بالإثم ، علما بأن الاعتراف بالخطأ فضيلة كما تعلمنا ذلك منذ صغرنا !
ليس هناك حل سحري واحد ، أو بطل منقذ يجعل مجتمعاتنا بين عشية وضحاها في أعالي الذرى ! إن بقوا على حالهم ، يلوكون خطاب الماضي وشعاراته ، بكل غرائبه وعجائبه ، فسيبقى الجيل الجديد يسمع المعزوفات القديمة التي لا تنتهي إلى شيء ذي معنى ! وسيبقى المتشائمون جامدون لا يرون في الأفق أي ضوء تهتدي به منظومتنا إلى بر الأمان .. والمتفائلون مغامرون يرون أنفسهم قادرين على تخطي الصعاب مهما كانت الأثمان ، بعيدا عن أية إجراءات مدروسة ، وحلول عملية وتطبيقية . لقد خفت كل من الشأن العام والمصالح العليا ، بسبب طغيان المشاكل الداخلية والإقليمية المتفاقمة ، فلكل بلد عربي مشاكله وتوجهاته وأزماته واختناقاته أو حساباته وتصفية آثار حروبه ، كما تبلورت مشكلات مركزية وإقليمية وداخلية عربية مستعصية أخرى ! وعليه ، لم تعد القوى الفاعلة في مجتمعاتنا تؤثر في صنع القرار أو تؤثر عليه ، رغم متغيرات العالم الهائلة والثورة الإعلامية والمعلوماتية ! ولعل اخطر ما ورثته بلداننا ، يكمن بجملة رواسب تمثلها نزعات جهوية وطائفية وانقسامية وقبلية .. الخ وكلها ينبغي إيجاد حلول عملية للتخلص منها .
وأسأل : هل من أسلوب حضاري وإنساني متميز لمجتمعاتنا ؟ وهل للعرب فتح اجتهادي جديد من اجل نقد الأساليب وتشخيص الأخطاء وتبيان العلل ؟ هل لهم القدرة على الاستجابة الحقيقية للتحديات المريرة المتنوعة التي بدأوا يعانون منها ؟ ولعل أهم ما يمكن الشروع به ، هو البدء بنقد الذات دون هوادة ، نقدا جادا وأخلاقيا ، من دون الاستماع إلى نغمة ما يسمّى بـ ” جلد الذات ” التي يريد البعض توزيعها من اجل إبقاء الأوضاع على ما هي عليه ! تلك ” النغمة ” التي أشاعها الرومانسيون الحالمون دوما بالتفاؤل ، دون أي حذر من المصير الذي ينتظر أجيالنا في الثلاثين سنة القادمة .
إن أي مشروع حضاري إنساني لمجتمعاتنا ، لا يمكن أن يبدأ من حيث انتهت الأمور عند نهايات القرن العشرين ، فلابد من الاستفادة من متغيرات جديدة طرأت في العالم كله. لقد ضيعّ العرب فرصا تاريخية ثمينة ، واحرقوا زمنهم ، ومواردهم .. منذ حصولهم على استقلالاتهم الوطنية .. ولم يعرفوا التنظيم ، ولم تتحرر أذهانهم .. إذ ضيعتهم الإيديولوجيات زمنا طويلا ، ولم يحسبوا أي حساب لمستقبلهم وأجيالهم من بعدهم ، ولم يعالجوا مشكلاتهم وتحدياتهم ضمن مناهج واقعية ومؤسساتية .. فكان أن نتجت جملة مصاعب معقدة ، وتناقضات صارخة ، وتراجعات مخيفة ، سيدركها الجيل الجديد ويعي خطورتها ، دون تغييبها أو تجاهلها.. ان أي محاولة للانطلاق ، لا يمكنها أن تتم بمعزل عن إنسان مؤهل بوعيه وإدراكه وتربيته وكفاءته وإبداعاته .. يقوم بتنفيذ المستلزمات الضرورية ، والعودة بالزمن كي يمشي نحو الأمام بدل تراخيه وضموره ! وأخشى أن يردد العرب بعد مئة سنة من اليوم عبارة : هل نكون أو لا نكون !
نشرت في البيان الاماراتية ، 16 يونيو / حزيران 2010 ، ويعد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
اللوحة المرفقة للفنان التشكيلي العراقي محمد سامي
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …