إنني كثيرا، ما أشبه حالة المهاجرين العرب والمسلمين كونهم قد اقتلعت جذورهم ، وطعّم أبناؤهم ليكونوا ثروة بشرية لمجتمعات أخرى .. أمامنا تطغى نماذج مختلفة من تشتت انتماء هؤلاء ، وتشظّي الأبناء والأحفاد .. ربما لا يتألم الآباء والأجداد ، وهم لا يفكرون إلا بالخلاص من بلادهم التعيسة التي تركوها ، من دون أن ينتابهم أي قلق على مصير أبنائهم وأحفادهم ، ذلك أن انتماءهم يبقى لأوطانهم الأولى ، ومن الصعوبة جدا عليهم أن يندمجوا في مجتمعات أخرى ، مثل كندا التي أصبحت تجمع كل ثقافة مجتمعات العالم على أراضيها الشاسعة !
ليس من شك أن بقية المهاجرين الآخرين ، لهم نفس انتماءاتهم وثقافاتهم ، لكن لا تصل أي ثقافة إلى درجة العنف أو دائرة الكراهية إلى الحالة التي يعيشها البعض من العرب والمسلمين في الغرب . إن المشكلة تكمن اليوم في التصادم بين مجتمع الحريات وبين أناس متعصبين يعيشون انفصاما رهيبا بين انتمائهم الأول وبين الأوطان الجديدة لهم .. إنهم يهاجرون إليها ، ولكنهم لا يكتفون بكراهيتها ، بل يمقتونها ويحتقرونها كونها تختلف عن تقاليدهم وعاداتهم .. ثمة من يفكّر دوما بالماضي ، ولا يستطيع التخلص من تعقيداته التي تبلورت في نفسه وأعصابه وتفكيره حتى يصل إلى نقطة اللاعودة بحيث تجده ينعزل عن كل الناس ، إلا من جماعته التي تكبر مع الأيام ، وهي منعزلة عن أية ثقافات أخرى !
إن المهاجر هنا ، يعيش علاقة روحية كاذبة يّعوض من خلالها النقص الذي يشعر به أبناء كل جالية في أي بقعة من الأرض . إن الأبناء والأحفاد لكل المهاجرين واللاجئين تتنازعهم مشاعر الولاء لأهلهم وبلادهم من طرف ، وأساليب الانتماء لبلاد يعتبرونها وطنا حقيقيا لهم ، كونهم ولدوا أو عاشوا فيها منذ بواكير حياتهم .. إن اندماجهم صعب للغاية بسبب هذا التناقض الذي يحملونه ، بل وان اكبر جناية ترتكب أن يتربى الأولاد والأحفاد على متناقضات متصادمة ، بل والأخطر أن تغسل أدمغة البعض غسيلا كاملا ليؤهل حتما لأعمال شريرة وإرهابية في مجتمعات غربية يتربى على رفضها حتى وان كان قد ولد فيها !
إن البعض من قصار الرؤية سيتفلسف ويثرثر طويلا كونه يرى نفسه في أبنائه وأحفاده، لكنه لا يدرك حجم المأساة بعد ثلاثين سنة من اليوم مثلا ! قبل أشهر مضت ، قابلت في تورنتو الكندية مجموعة عربية من رجال عرب كهول السن ، وهم يعيشون أفكارهم المحتقنة ، إذ يحلمون ببثها في الغرب الذي يريدونه على مقاساتهم ، ولما جابهتهم أن أحفادهم هم بحكم المندمجين ، وستجدونهم كالكنديين الحقيقيين مستقبلا بحكم الزمن ، انتفضوا انتفاضة كبيرة واستعاذوا بالله من الشيطان الرجيم ! فقلت لهم : إنها حقائق أثبتها الزمن على مهاجرين عرب إلى أمريكا الجنوبية منذ مائة سنة مرت ، خصوصا وإنكم تتمتعون بالقوانين الكندية اليوم ، ولكنكم ترفضون الواقع وانتم من الهاربين ، فإذا كان هذا تفكير الناس العاديين من العرب والمسلمين ، فكيف ستكون نظرة أولئك الذين يتوهمون جعل العالم يمشي حسب مزاجهم وأهوائهم وأفكارهم ؟؟ فإذا كنتم قد فشلتم في أوطانكم التي أدرتموها من الأمام إلى الوراء ، فكيف باستطاعتكم تغيير العالم كما تريدون ؟ إن العالم أقوى منكم جميعا، وهو لا يكترث بكم، بل يعّول على أحفادكم في الشتات !
نشرت في جريدة البلاد ، كندا ، العدد 94 ، اكتوبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …