” متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ”
عمر بن الخطاب (رض)
لدينا نحن العرب ومعنا اغلب مجتمعات العالم الإسلامي ، جملة مشكلات صعبة لا يمكننا تجاوزها أبدا من دون معرفتها والاعتراف بها . إن من السذاجة والبلادة ، التصفيق لمفاهيم الديمقراطية من دون فهم معانيها وإدراك تجاربها التاريخية لدى الشعوب ، ومن دون معالجة عوائق ممارساتها وتطبيقاتها في أي مجتمع من مجتمعاتنا التي لا يمكن ان تسير على الطريق المستقيم بلا تأسيس أي قطيعة جذرية بين الذي يتمّكن في العقليات والذهنيات من نزوعات وأهواء وأفكار وبين الذي تقوم عليه الحياة الديمقراطية الحقيقية التي لا تختصر بحكم الشعب نفسه بنفسه ، بل بأكثر من ذلك بكثير وخصوصا الإيمان بالحريات العامة والشخصية والسياسية وعمل المؤسسات واحترام حقوق الانسان وتوفير الواجبات له والاعتراف بحقوق المرأة .. وان كل ذلك لا يمكن ممارسته من قبل اناس يتشدقون بالديمقراطية زيفا وبهتانا .
ولعّل من اغرب ما تشهده التحولات البنيوية الكبيرة في منطقتنا العربية وعالمنا الإسلامي استخدام ” نماذج ديمقراطية ” في واقع مليء بالتناقضات وفي مناخ تغيب عنه الروح الديمقراطية والمبادئ الديمقراطية والأساليب الديمقراطية والمؤسسات الديمقراطية .. لقد مضى نصف قرن شهدت اغلب مجتمعاتنا ممارسات بشعة وتجارب دموية لا تعرف أي معنى للديمقراطية أبدا ، وقد ترسخّت الصور الاستبدادية والأفكار الأحادية والمؤدلجات والأحزاب العقائدية والجماعات الدينية والتكفيرية التي أهانت المجتمع المدني في أكثر من مكان .. وسيطرت حكومات عدة على شعوب حيوية ونشيطة ومنتجة سحقت فيها روح المثابرة وأطفئت شعلة المنافسة وسحقت قوة التباين وأماتت التفكير الحر ..
ماهية الديمقراطية
إن الديمقراطية لم يلدها دين ولا شرع ولا فقه ولا مرجع ولا مذهب ولا طائفة ولا حزب معين ولا حوزة ولا هيئة أو تاريخ معين .. إنها ظاهرة تاريخية وإنسانية قديمة الفكر ، ومتجددة المبادئ وحديثة التكوين وواسعة المضامين ، وهي نتاج كفاح ونضال الإنسان ضد الطغيان والاستبداد والاستعباد والظلم والتحزب والتكتل والدكتاتورية والتهميش والعنصرية .. إنها ثمرة تاريخ فلسفات مجتمعات مدنية من اجل الحرية في كل مكان من هذا الوجود .. إنها أسلوب عمل مؤسسي منفتح وطريقة حياة في التعبير الحر وصنع القرار المسئول عن فكر سياسي يعّبر صاحبه من خلاله انه يلبي حاجات الواقع وضروراته . إنها لا تمشي على أجندة محاطة باسيجة ولا تعمل من اجل سلطة ولا تتفاعل من اجل أن يقال بأنها ” تجربة ديمقراطية ” !
الديمقراطية لا يمكنها أن تنضج في بيئة مليئة بالتناقضات ، وتعّج بالتخلف وعادات وطقوس تكبل المجتمعات بالأغلال .. الديمقراطية لا تلغي دور المرأة وتحجّرها وتغلفّها وتقمطّها وتلغي دورها الحيوي في بناء المجتمع ! إن على من يمارس الديمقراطية أن يدرك معانيها لا أن يقتصر على ترديد شعاراتها التي باتت رخيصة جدا .. والديمقراطية لا يمكن استخدامها في بيئة متورمة بالأمراض والسيئات يسودها الاضطراب والعنف الشديد ويعاني المجتمع من تناقضات رهيبة ومن صراعات دموية صارخة .. إن الديمقراطية تتمثّل باحترام إرادة الإنسان الفرد ومشاعره وعمله وأفكاره .. الديمقراطية لا تسمح لك باسترداد التاريخ لتحاكم به الحاضر . إن الديمقراطية ليست لها مقاييس لعادات هذا الشعب أو ذاك أو لهذا الدين أو ذاك أو لهذه العصبة السياسية أو تلك الجماعة .. !
هل العرب ديمقراطيون ؟
كتب أمير البيان شكيب ارسلان مقالا منذ قرن مضى بعنوان ” العرب ديمقراطيون ” يقول فيه إن العرب ديمقراطيون !! وقد أتى بأدلة ساذجة جدا ليست اقل مما يأتي به اليوم كتّاب عرب ومفكرون لا يعدون ولا يحصون وهم يؤكدون أنهم من الديمقراطيين وان تجربتهم ديمقراطية ، بل ويصل الهوس إلى حد كيفية تصديرها إلى الشعوب الأخرى .. بل وينبري حتى الوعاظ ليتكلموا بالديمقراطية وأنهم من الديمقراطيين من دون الآخرين !! إنني على الرغم من احترامي للأستاذ شكيب ارسلان واعتزازي بتاريخ نضاله أيام القضية العربية ، إلا أنني وجدته ساذجا جدا عندما اعتقد بأن الديمقراطية عند العرب هي أفضل مما لدى الأمم الأخرى ، متخّذا بعض أمثلته من عادات شخصية أو تقاليد قبلية .. انه كمّن لا يعرف بأن ” الديمقراطية ” هي أسلوب حياة ونظام تفكير حر وركام خبرات وتقاليد عالية المستوى بدءا بالمؤسسات وانتهاء بالأفراد .. لا تنتهي بعادة العرب قديما أو حديثا التخاضع لملوكهم وأمرائهم كما تتخاضع أمرائها وملوكها سائر الأمم .. وليس إن خاطب رجال القبيلة شيخهم باسمه أو بـ ” أبو فلان ” أنهم غدوا من الديمقراطيين !؟ ويبدو أن شكيب ارسلان لم يقرأ تاريخنا وواقعنا السياسي والاجتماعي جيدا ليدرك كيف كانت طبيعة الاستبداد الشرقي في الدولة وكيف هي طبيعة الرعب المسيطر على المجتمع جراء القوى المهيمنة عليه .. فالديمقراطية ليست شكلا من إشكال العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم فقط ، بقدر ما هي أسلوب حياة ونظام مجتمع يتمتع بذلك ديمقراطيا كل إنسان وكل مجتمع وكل مؤسسات أي دولة من الدول ذات التجارب الديمقراطية !
مائة سنة من التحولات !
واعتقد أن مائة سنة مرّت علينا والعرب لا يعرفون من الديمقراطية إلا شكلها واسمها وشعاراتها ، فالذين كانوا من الليبراليين المؤمنين بالحريات وصناديق الانتخاب والمجتمع المدني أساءوا إلى الديمقراطية من خلال شراء الأصوات في شوارع المدن والفلاحين في الأرياف .. والذين كانوا من الماركسيين والشيوعيين الامميين استخدموا ” الديمقراطية” وهم لم يتنازلوا أبدا عن فلسفة الصراع الطبقي وسجن الحريات وحكم البروليتاريا .. أما الذين انضموا لأحزاب قومية وشوفينية فلقد وجدوا في ” الديمقراطية ” قناعا مثل كل الأفكار والمصطلحات الجديدة التي استعاروا شعاراتها زورا وبهتانا .. ومن المضحك المبكي ، أن تغدو ” الديمقراطية “، مطية هي الأخرى للأحزاب الدينية في العشرين سنة الأخيرة ، والتي لا يقبل أي منها القبول بالآخر ومنح الحريات ولا يؤمن أي عضو فيها بأي تفكير مدني حر !!
ولعل في تبلور مخاطر الصحوة الدينية التي أتت بها الحركات الدينية المتشنجة قد خلقت جملة هائلة من الأحزاب والجماعات المذهبية والطائفية في المنطقة وعموم عالمنا الإسلامي ، والتي ستؤتي أكلها الصعبة اليوم على زمن التحولات . إن الكثير من المنّظرين والساسة والكتاب العرب لم يدرك طبيعة مجتمعاتنا في المنطقة والتناقضات المريعة التي تعيش عليها وكلها تناقضات مسكوت عنها وخفية عن الظهور بفعل الوازع الوطني .. ولابد أن نعترف بها قبل أن تنفجر ، وهي تتفجر بكل مآسيها في أولى التجارب التي يسمونها بالديمقراطية .. ومن الغباء الذي يسيطر على العقليات الثخينة قبول ” الديمقراطية” شعارات براقة والإيمان بها وبشكلياتها والأخذ بنتائجها والتشدق بها من دون الاعتراف بأن ” الديمقراطية ” : فكرة وفلسفة وظواهر وممارسات تطبيقية هي غربية الأصول لا تمّت إلى تاريخنا ولا إلى تفكيرنا ولا إلى واقعنا بصلة .. فهم يأخذونها مجردة من أصولها ومرجعياتها الأوربية ويحاولون ممارستها بغرابة وتطبيقها على واقع مجرد هو الآخر من تناقضاته ومن دون الاعتراف بتلك التناقضات أبدا .. وعند ذاك ستكتشف هول ما سيحدث من التصادمات وما ينتج عن ذلك من الانشطارات والتمزقات والصراعات الدموية .. ذلك لأن الأغلبية لا تؤمن بالحريات الشخصية ، فكيف لها أن تؤمن بالحريات الفكرية والسياسية .
تجارب مختنقة تتشبه بالديمقراطية
وأسأل : هل الديمقراطية تنحصر بقوائم انتخابية وهوس عاطفي ليقال بأن حياتنا غدت بقدرة قادر حرة وديمقراطية ؟ هل أنها مجرد وسيلة للوصول إلى السلطة واحتكارها ومن بعدها ليذهب الشعب إلى الجحيم ؟ أم أنها أسلوب عمل ونظام حياة يتربى عليه الإنسان في مجتمعه كي يدرك ضروراته ويدرك طبيعة علاقة المجتمع وكل علاقاته الاقتصادية ونسيجه الثقافي الذي ينتمي إليه بالدولة ؟ إن الديمقراطية هي اكبر بكثير من توصيفنا أنها حكم الشعب لنفسه، إذ أنها صيغة تحافظ على حقوق الناس والتعبير عن رأيهم وبالتالي صيرورة إرادتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية المستقلة !
إن الديمقراطية ليست مجرد صندوق انتخابي يساق إليه الناس بشتى الطرق والأساليب زرافات ووحدانا أو بقضّهم وقضيضهم لكي يدلوا برأي واحد لا يمّت إلى حقيقة ما يتطلبه الزمن منهم ، بل انه رأي ألزموا به من خلال تعبئة أو تعبئة مضادة .. والديمقراطية تعبير عما يريده الإنسان (= الفرد ) في الهيئة الاجتماعية لا عما تبيّته أي كتلة أو تيار أو حزب أو هيئة من أجندات غير سياسية وغير وطنية !! وعليه ، فان أي تجربة انتخابية إن لم تمّت لروح المواطنة بصلة ، ولا تنتمي للمؤسسات بأي اعتبارات ، فهي لا تعد بديمقراطية أبدا !
وأخيرا : من يوصد الأبواب ؟
من لم يؤمن بالحريات المسؤولة ، ومن لم يؤمن بحرية الأفكار واحترام الرأي وحقوق الإنسان ، وبشكل خاص حقوق المرأة والطفل في مجتمعاتنا .. من لم يؤمن بتداول السلطة ، من لم يؤمن بالقانون المدني والمساواة بين البشر .. من لم يؤمن بالسلام والحوار وإلغاء الخطوط الحمراء .. من لم يؤمن بقيمة الزمن وقيمة الحياة وقيمة المعاني والأشياء .. من لم يؤمن باستقلالية الإعلام والقضاء والقرار.. من لم يؤمن بتحرر الأوطان وتطور الحياة .. من لم يكف عن التدخل بشؤون الآخرين .. من لم يلغ تدخل رجال الدين في السياسة من لم يلغ من عقليته كل الانتماءات إلا مبدأ المواطنة .. من .. ومن ، فهؤلاء جميعا يوصدون الأبواب أمام الديمقراطية . وعندما أتكّلم هنا عن العرب ، فانا لا استثني بقية الشعوب الأخرى آسيوية وأفريقية والتي تشاركها المحنة نفسها ، ولكن بتباين حجم الأبواب الموصدة .
نشرت في الف ياء الزمان ، 28 سبتمبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com