قلما نجد حكاما زهادا يولدون ويموتون وليس لهم إلا صالح الأعمال ، وقلما نجد رجالا يجتمع المال والسلطة عندهم وهم يخرجون من الدنيا بلا فضائح ! وقيل منذ القدم أن المال والسلطة إن اجتمعا، فالجنس ثالثهما ! ومهما بلغت المجتمعات اللاتينية من التحرر ، فان الصحافة ونشر الأخبار تطال كل المسؤولين ، وان القانون يلاحق كل من تلصق به فضيحة أو فضائح .. وإذا كان بعض المجتمعات بدائية ، فالعالم لا يعرف عما يمارسه حكامها من فساد .. أما المجتمعات التي تتفوق فيها التناقضات ، فان ما يتم من وراء الأستار ، لا يعلم به احد .. ومجتمع ايطاليا لم يزل كبقية مجتمعات البحر المتوسط ، إذ تتفوق فيه التناقضات ..
وقصة سلفيو برلسكوني ، اليوم ، لم تقتصر فضائحها على واجهات الصحف الايطالية ، بل تتناولها كل صحف العالم ، بعد أن أصبحت تلك الفضائح حديث كل الناس ! انه رئيس الحكومة الايطالية الذي اشتهر منذ سنوات طويلة كواحد من اغني رجال ايطاليا .. انه يحكم اليوم ، وصحف ايطاليا والعالم تلاحق فضائحه الجنسية التي ملأت الدنيا .. انه ليس بشاب مراهق ، بل تجاوز عمره السبعين ، فهو من مواليد العام 1936 ، ولم يكن بباله يوما أن يكون سيدا لايطاليا ، ولكن الرجل تحّول إلى درجات أفضل بفعل المال بعد أن بدأ يغني في الحانات والبارات والكاربريهات .. ثم ينتقل ليكون رجل أعمال ناجحا ، إذ أصبح واحداً من أغنى رجال الأعمال في العالم ، ومن خلال ذلك تمكن أيضاً من التحول إلى أن يكون رجل السياسة الأقوى في إيطاليا ـ وأحد أكثر رجال السياسة ازدواجية وتلوناً على مستوى العالم كله . لقد جمع ثروة طائلة نجح في توظيفها أولا لبناء إمبراطورية إعلامية تلفزيونية كبرى تمتلك أهم قنوات ايطاليا ، فوظفها لصالح مشروعه السياسي ، ولصالح الحزب الذي أسسه بعد أن رغب في العمل السياسي من اجل السلطة التي تمّتع بها بالمرة الأولى 1994-1995 ، والمرة الثانية 2001- 2006 ، والمرة الثالثة منذ 2008 حتى اليوم ..
إن سر نجاحه يكمن في فهم برلسكوني قواعد اللعبة الجديدة في الصعود ، وخصوصا في مجتمع ايطالي لم يزل يعيش على تناقضات كبيرة .. لقد نجح الرجل في تسويق نفسه بذكاء منقطع النظير إعلاميا وسياسيا موظفا المسحة الجديدة كونه صاحب ارتباط قوي بالتقاليد والقيم الكاثوليكية من جانب ، وهو يحمل مشروعا سياسيا وطنيا ايطاليا معاصرا من جانب آخر فكان برلسكوني نقيضا لالدو مورو الذي عرفه العالم منذ سنين ! لقد نجح برلسكوني في استغلال الفرص المتاحة أمامه ، ليكون الشغل الشاغل للناس في ايطاليا ، اذ كسب إعجاب الناس سياسيا ، ولم يزل هناك من يتمسك به ويدافع عنه دفاعا مستميتا ، ويجد البعض ان حياته الشخصية ملكا له وحده في حين يقف اليوم من يعارضه معارضة شديدة وينعته بشتى النعوت . نعم ، ان برلسكوني ، الرجل الناجح في إدارة أعماله وإدارة امبراطويته الإعلامية قد فشل فشل ذريعا في إدارة ايطاليا .. وهو اليوم يخسر شعبيته التي أتت به إلى السلطة .. ويخسر الثقافة القيمية الكاثوليكية التي تحدث بها طويلا ..
لقد خدع برلسكوني الجماهير إعلاميا من خلال قنواته التلفزيونية منذ أواخر السبعينيات من القرن العشرين وعلى امتداد ثلاثة عقود من الزمن ، أي حتى يومنا هذا .. متوجها بقوة إلى جيل عريض من الشباب الذين وجدوا في برامج الشاشات التلفزيونية نمطا جديدا للحياة ، هي غير ما ألفه المجتمع الايطالي وهكذا ، ففي غضون ثلاثين سنة ، تغير المجتمع تغيّرا كبيرا ، وبرز جيل جديد تربّى على قيم مزدوجة بعد أن تمكنت قنوات برلسكوني التلفزيونية من بث صور وهمية للنجاح لا أساس لها من الصحة ، وغدا أبناء وبنات الطبقة العاملة لا يحبذون العمل والدراسة والإنتاج بقدر ما يطمعون لأن يكونوا نجوم سينما ، عارضات أزياء ، عشاقا عرايا ، أو لاعبي كرة قدم ..
إن برلسكوني بقدر ما خذل نفسه بحيث لم يستطع التخلص من فضائحه ، فقد دّمر القيم والتقاليد لجيل كامل في ايطاليا . لقد شكّل هو نفسه تجسيدا لذلك الشكل الذي يعتبره البعض من أشكال النجاح .. وحتى أسابيع قليلة مرت ، كان الكل في ايطاليا بدءا بالكبار ووصولا إلى المواطن العادي ينظر إليه باعتباره النموذج الرائع الذي يفتخرون به ، ويدعون للاحتذاء به كونه صاحب أهم وابرز نجاح في الحياة .. لكنه اليوم يفتقد شعبيته شيئا فشيئا ، كونه انكشف على حقيقته ، فهو يريد أن يسّوق القيم الكاثوليكية والعادات العريقة برأس المجتمع ، في حين أن فضائحه الجنسية تملأ كل ايطاليا .. فهو يتحدث عن قدسية الحياة الزوجية ، ولكن هو نفسه له عشيقاته وشريكاته غير الشرعيات فضلا عن مغامراته التي يقرأ عنها أبناء شعبه ، وهم يتناقلون قصصه المليئة بالتجاوزات منذ أن نصّب ثانية بمنصب رئيس الوزراء عام 2008 .
إن خواطر الايطاليين ، وخصوصا أبناء الجيل القديم ، لم تهدأ أبدا حين يعلمون بأن برلسكوني اختار محظياته مرشحات انتخابات البرلمان الأوربي وهن من دون أية مؤهلات !! إن حلم برلسكوني بمنصب رئيس لايطاليا ، سوف لن يتحقق أبدا ، إذ أن الأمل ضعيف جدا بانتخابه ، بل وانه غدا هدفا للهجوم من قبل مكونات حزبه بسبب سلوكه وانه لم يعد يلعب بأية أوراق يمكنه من خلالها الدفاع عن نفسه ، بل وان ثمة محادثات مسجّلة تدينه أخلاقيا وهو في فيلته بسردينيا . وعليه ، هل باستطاعة الرجل أن يقاوم حتى النهاية ، أم انه سيرغم على الاستقالة مع نهاية العام 2009 ؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة .
نشرت في البيان الاماراتية ، 19 اغسطس ، 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …