صمت
مثل قديم
دعوة للصمت
التقيت في مناسبة علمية بأحد الأصدقاء المثقفين العراقيين الذين احترم كتاباتهم وقوة أفكارهم .. وطال الحوار في ما بيننا ، ولكنه أزعجني جدا لإصراره على تبنّي فلسفة الصمت ، ودفاعه عن التوقف النهائي عن الكتابة بلا أسباب مشروعة .. وحجته أننا أعطينا أكثر مما يجب ، وعلينا أن نتمتع بما تبّقى لنا من سنين .. قلت له : إننا ملتزمون لئن نؤدي الأمانة كاملة ! لم اقبل تبريره انه يكتب من اجل المعرفة لا من اجل المجتمع .. وللموضوع لا الذات ، وانه سيستهلك نفسه إن مضى في مشروع كتابته ، بل عقّب قائلا بأنه كتب مشروعه وانتهى منه قبل سنين ! بدا لي وكأن الرجل قد تيبست خصوبة أفكاره ، ولم يعد مبدعا وهو عند الخمسين من العمر .. وانه قد اكتشف ذاته المتقهقرة التي لم تعد تقوى على العطاء .. عاد إليّ ليقول : لماذا تّقدم شخصيتك في كتاباتك أو تظهرها بين السطور .. وهو يريد إخفاءها ، كونه لا يريد القارئ أن يكتشفه وينشغل به قبل اكتشاف النص .. قلت له : من له ثقة بنفسه ، عليه أن يقود النص الذي يكتبه ، ومن ثم تنقاد إليه القراء من دون أن يختفي وراء العبارات ولا يدرك أي قارئ من هذا الذي يختفي من وراء نصه صنما مجهولا !
ألحّ علّي بالصمت قائلا : لقد أديت أمانتك ، فلم تشغل ذهنك ، وتخسر وقتك ليل نهار وانت ما سر هذا الإسهاب في الكتابة ؟ وثمة نقاطا أساسية أكدها لي ـ بعد أن طلب مّني أن ليس عندي مانع من مصارحتي ـ ، خصوصا ما له علاقة بنشر النصوص وطول بعضها ! فسامحته بعد أن استوعبت قصده من دون أن يدري أن من يقرأ لي فعلا يريد الاستزادة .. وراح يوضح فلسفته التي تختزل بأن الإبداع للإبداع ، ولم يكن الإبداع يوما للمجتمع أبدا ، فأجبته بأن هناك عدة أنواع من الكّتاب والمثقفين ، ولكن في مقدمتهم من لا يتوقف لحظة واحدة عن التفكير والقراءة والكتابة ، وهناك من يعجز بعد أن جرى وتوقف وصمت .. أما أنا عن نفسي ، فلا يمكنك أن تطلب مني الصمت ، فانا اشعر أنني حصان جامح لا يمكنه أن يتوقف أبدا حتى آخر لحظة من حياته .. واشعر بأنني سأبقى هكذا .. وخصوصا ما دام هناك من ينتظر نتاجاتي ومقالاتي .. ويتابع أنشطتي ليل نهار . أن ثمة دوافع عندي تجعلني دوما في قلب هذه الحركة التي ربما يتم تجديدها على يدي كل يوم .. وقد سئمت طرح هكذا ” موضوع ” يطالبني صاحبي فيه ان اصمت ، فأغلقته بدماثة وقد تحّولت إلى موضوع آخر !
المثقف الحقيقي : ابداع متواصل
إنني أؤكد في هذا السياق بأن المثقف الحقيقي لا يمكنه أن يتفق مع فلسفة الصمت ، واعتقد أن الصمت لا يحصل إلا في ثلاث حالات : حالة من دخل الميدان بالرغم منه ، واستحصل على قصاصة ورق اسمها (شهادة عليا) ، وحالة من اندفع من قبل سلطة ، أو هيئة ، أو اكتاف جماعة وحزب .. وهو لا إمكانات لديه ، فصنعته الصدف من دون أن يدري ، وحالة من اكتشف أن لا فائدة ترجى أبدا من عطائه ، خصوصا ، بعد أن امتلأت الدنيا بأشباه الكّتاب وأنصاف المثقفين ! إن مكانة المثقف الحقيقي والمبدع المتواصل ، كانت باستمرار من خلال «التكريس» الذي يناله وراثيا أبا عن جد ، وكأنه يرث مهنة أو حرفة ، كما تخبرنا كتب السير والبايوغرافيات في التواريخ الثقافية العربية القديمة ، وهو أمر صحيح مثبت بعدد هائل من الأسماء التي ورثت أبا عن جد حرفة الأدب ، أو الثقافة ، أو التخصص والمهنة .. أو يتم الاندفاع من قبل اقرب الناس إليه ومن قبل أقرانه ومعاصريه بحيث يكون التأثير بيّنا وواضحا ..
آليات التكريس
وإذا كان هذا الأمر صحيحاً منذ عصر الاستنارة وحتى اليوم ، فإن آليات «التكريس» ذاتها هي التي أصابها التغيير ، كما أن المعايير نفسها قد تغيرت ، لكن إذا كانت حياتنا الثقافية والتخصصية قد أهينت في اغلب مؤسساتنا وجامعاتنا ومعاهدنا العربية ، بعد أن فتحت أبوابها المتهرئة كالمقابر العامة أمام كل من هب ودب من الناس .. ولم نعد نشهد أي تقييم حقيقي للقدرات والكفاءات بسيطرة مافيات معينة على الحياة الجامعية العربية مثلا . وكلنا يتذكر خلاف الدكتور طه حسين مع الأستاذ احمد أمين حول مستوى الكفاءة في جامعة فؤاد الأول ، إذ تتم المناطحة من اجل أن لا يدخل هذه المهنة إلا من يستحقها عن جدارة .. أو ما ينبؤنا عنه موقف المؤسس الأستاذ متي عقراوي من تعيين كادر جامعة بغداد قبل أكثر من خمسين سنة ، إذ كان يحرص على أن يلتقي أي متقّدم لشغل عمل أكاديمي ويمتحنه بدءا بشخصيته وانتهاء بمؤهلاته وثقافته العامة ومدى صلاحيته ! ولا أريد أن اربط المثقف بالأكاديمية فقط ، بل هو اكبر بكثير من كونه حامل قصاصة ورقية يسمونها شهادة عليا ..
المثقف : انسان يختزل حقيقته
إن تعريف المثقف ذاته هو من عرف بإمكاناته العليا التي يتميز بها عن غيره ، وخصوصا ، عندما يعرف بين الناس بحيويته ونشاطه الذي لا يكل أبدا منه .. وكلما يمضي به الزمن ، فهو يزداد توهجا وعطاء ومضاء .. إن المثقف الحقيقي لا يمكنه أن يهرب من الميدان ، وهو يدرك أن حياته وفكره وإبداعه ليس ملكا له ولإرادته ، بل كل ذلك مرتهن بإرادة من يريده ويسعى إليه ، ويبادله الرأي والنقد والإعجاب .. وحتى رفض البعض لمثقف معين ، يعد موقفا كونه قد أثّر بالضد منه فاتخذ موقف الضد منه .. بمعنى أن للمثقف أهمية معينة في الأوساط التي تتداول ما ينتجه . إن البعض يصيبه الإحباط نتيجة شظف الحياة المعيشية أو قسوة الحياة السياسية أو أطواق السلطات الاجتماعية أو حتى صعقات بعض المثقفين المناوئين .. ولكن ذلك لا يجعله يهرب البتة أو يصمت ، أو يهادن الفشل ، أو يقنع نفسه بالكفاية وانه قدّم وعلى غيره أن يقدّم ..
ثورة المثقفين
إن المثقف الحقيقي لا يمكنه أن يبقى على حيويته إن لم يبدع شيئا أو نصا أو يعلن عن موقف أو يعيش حالة .. هكذا لم يتردد ريمون آرون وجان بول سارتر وميشيل فوكو في النزول إلى الشوارع للمشاركة في مظاهرات احتجاجية ضد إجراءات قمعية أو لتأييد «عامل جزائري» تعرض للاضطهاد .. بالرغم من الاختلاف الكبير في المشارب الفكرية لكل منهم ! وكان سارتر قد أكد في عمله المنشور عام 1972 والذي يحمل عنوان «دفاعاً عن المثقفين» بأن مكانة المثقف المرموقة إنما هي بمثابة نوع من الصلاحية الأخلاقية الكونية ـUniversal ـ والتي تتعارض مع السلطة .. ذلك أن المثقف هو الإنسان الذي تختزل حقيقته كونه يتدخل فيما لا يعنيه. وهنا ينبغي أن نشير إلى أن الجنرال شارل ديغول رأس السلطة في فرنسا أثناء تلك الأحداث التي عرفت بـ «ثورة الطلبة» في فرنسا في شهر مايو من عام 1968 ، كان قد رد على أولئك الذين نصحوا باعتقال جان بول سارتر على أساس انه «رأس الأفعى» الذي دبّر تلك الأحداث ، فأجاب ديغول قائلا : انه لا يستطيع فعل ذلك ، فسارتر هو فرنسا ولم يتردد في تشبيهه بفولتير.
المثقف النوعي
لعل أفضل صورة للمثقف الحقيقي قد تبلورت في كل من الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين في كل مكان من العالم ، عندما وصل العالم باحتدامه إلى ذروة الصراع ، فأنتج ذلك صورة قلما نجدها في ما يعترى العالم اليوم من تشوهات وانتكاسات واحباطات وانتهاء بدعوات الصمت ! تلك ” الصورة ” التي نسعى لاستعادتها وانطلاق نضارتها ببروز نوع جديد من المثقفين أطلق عليه الفيلسوف ميشيل فوكو تسمية «المثقف النوعي» ، وهو المثقف الرائع الذي وضع نفسه في خدمة معارك خاصة ليس من اجل مجتمعه فقط ، بل من اجل البشرية قاطبة ، وقد استخدم فيها كفاءاته التكنولوجية وحوافزه الإيديولوجية . وهكذا انفتح باب الاختصاص عريضاً مع النجاحات الكبيرة التي حققتها العلوم الإنسانية بمختلف فروعها ، أي «المثقف المختص» بدلاً من المثقف العام بالموازاة مع الطبيب المختص والطبيب العام.
في ثقافتنا العربية المعاصرة
قلما مارس الصمت أحد في ثقافتنا العربية القديمة .. كما اني لم أجد في ثقافتنا العربية المعاصرة إلا ندرة من المثقفين قد اختار الصمت ، فمنهم من آثر الانتحار ، وذلك أعلى درجات التمرد على الحياة البائسة كونه لم يستوعب الصدمة والهزيمة التي سحقت أحلامه سحقا .. وهناك من آثر الرحيل إلى المجهول .. ويبقى الكل يعمل والثقافة شغله الشاغل حتى آخر لحظة من حياته .. ثمة من يصمت لأسباب سايكلوجية كونه لا يجد المناخ الملائم الذي باستطاعته أن يقول أو ينتج فيه شيئا كالموسيقار محمد القصبجي .. وثمة من ينتهي على فراش الموت وهو يقول آخر مقطع من قصيدة له كالسياب وقد عصرته الآلام دون أن يستسلم لها .. وثمة من يبقى يناظر أصدقائه ويتغزل بشابة صغيرة وقد تجاوز التسعين كما هو حال الراحلين الكبيرين الشاعر محمد مهدي الجواهري أو المؤرخ نقولا زيادة .. ثمة من يرتحل إلى عوالم أخرى بعيدا عن الشرق الأوسط وعن عن عالمنا العربي وهو باق يتشبث بثقافته العربية وهويته مثل ادوارد سعيد وادونيس ونزار وغيرهم .. وغير هذا الرعيل من ابرز المثقفين كثير ..
وأخيرا : الحقيقيون هم الذين يخلدون
هذا الانخراط ، أو بالأحرى ، الاندماج هو الذي يبقى المثقف ملتصقا بالقضايا المباشرة لعصره إنما يدفعه ، إلى أن يقيم سلطته بلا أي صمت أبدا على المدى القصير بل وعلى أساس رفد معطيات الحاضر مهما بلغت الاوضاع من التردي .. فالتردي لا يعالجه إلا الواعون والمبدعون والمثقفون المنتجون .. إن اقتراب المثقف من عصره بل وولوجه إلى محافل الحياة بكل تناقضاتها عن سبق إصرار وتصميم وبطرق مدروسة ومرسومة الدوائر والمداخل والمخارج هو أمر آخر غير ذلك الذي كتبه جان بول سارتر في العدد الأول من مجلة «الأزمنة الحديثة» التي أسسها مع صديقته سيمون دو بوفوار وجاء فيه: «لا نريد أن نكون بعيدين عن أي شيء في عصرنا فالكاتب هو في اتصال مع حقبته وكل كلمة لها أصداؤها ، وكذلك لكل صمت صداه كان سارتر يعني بذلك ما اسماه بـ «المثقف الملتزم» بالقضايا العامة لمجتمعه وليس المثقف الملتزم «كاريكاتورياً» بها ومن موقع مصالحه الخاصة .. هنا أقول بأن المثقف الحقيقي هو الذي لا يتوانى أبدا عن خدمة عصره وبيئته وثقافته كي تبقى ملامح صورته مرسومة على المدى .. ولكي يسجل نقطة مضيئة تبقى تشع على العالم . هنا ، هل استوعب صديقي العزيز لهذا الدرس ؟ أتمنى منه أن يوقف صمته أو أن يمتنع عن دعوته للصمت ، ويكف عن دعوة الآخرين أن يصمتوا مثله .. إنني مؤمن بأن ” الصمت فن عظيم .. ” كما يقول وليم هنريت ، ولكنني مؤمن أيضا بما قاله الإمام الشافعي : ” إذا أراد أحدكم الكلام ، فعليه أن يفكر في كلامه فإن ظهرت المصلحة تكلم, وإن شك لم يتكلم حتى تظهر ” .. أتمنى على صديقي العزيز أن تظهر له المصلحة لخدمة الحقائق التي تحتاجها منّا الأجيال .
نشرت في الزمان ، الف ياء ، 29 حزيران / يونيو 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com