إن فلسفة الحداثة ، لا يمكننا ، أن نؤسسها في عالمنا المنكود بكل أوجه القباحة ، والسوء ، والدمامة ، والبلادة.. علي عكس ما نجده في مجتمعات تعلمت كيفية صناعة مستقبلها ، والإبداع في تاريخها المستحدث بعيدا عن إعادة إنتاج ما كان قد مضي زمنه وتلوكه وتجتّره من دون مضغه أبدا.. وعليه، فلابد أن يبدأ وعي جديد في مجتمعاتنا كلها ، يتعلم من مجتمعات أكثر واقعية وبراغماتية جملة من التقاليد المستحدثة . ولقد دعوت هذه الحالة بعملية إسدال الستار علي الماضي في كتابي: العرب والأتراك: الانبعاث والتحديث من العثمنة إلي العلمنة.
إن زمنا صعبا ، سيأتي علي أجيالنا الثلاثة القادمة في القرن الواحد والعشرين ، تكتشف فيه كم جرت من موبقات وخطايا من قبل الآباء والأجداد في القرن العشرين تحت مسميات شتي، وكانت في أغلبها : خائنة ، وملتوية ، ومزيفة ، وكاذبة ، ومفبركة ، وغير نظيفة .. إنني اكتب ذلك للتاريخ وللناس من بعدنا ، بعد أن أوهمونا نحن الذين ولدنا وتربينا وعشنا في الخمسين سنة الأخيرة ، بكل تلك الأكاذيب ، والمهاترات ، والشعارات ، والشتائم ، والتهويلات .. تحت عناوين مختلفة باسم المبادئ المجيدة التي تبدو اليوم للأذكياء ، كم كانت خاطئة ، ومزيفة ، ومنكرة.. لم يحدث أبدا ، أن استعيرت شعارات ، وسرقت أفكار ، واختلست مبادئ ، واستلبت مشاعر ، وأصدرت بيانات..!! فضلا عن سحق إرادة شعوب ، وانحراف مجتمعات عن أخلاقياتها العالية ! لقد تفاقمت التناقضات بشكل لا يصدّق ، أو يتخّيل ، فكيف يمكننا علاجه وهو على درجة بشعة من الاختلاف .. مع انكشاف مؤامرات ، وخيانات ، وجنايات ، وإضاعة حقوق ، وإعدام تكافؤ فرص وإبداعات ، ووأد حقوق ، واستخفاف بالإنسان !؟ والانكى من ذلك ، مشروعات قتل ، ونفي ، وتعذيب ، وتهجير ، وإبادات جماعية ، وتصفيات على الهوية ، وذبح نساء وأطفال.. ولم يحدث كالذي عايشناه في الخمسين سنة الأخيرة أن سرقت أوطاننا ، وسلخت مدننا ، وأحرقت مواردنا ، وسحقت أجيالنا في حروب قذرة رتبوها لنا .. وكلها تحت أغطية مبادئ وطنية ، وقيم قومية ، وإيديولوجيات سياسية ، وأحزاب دينية!! السؤال الذي نختزل فيه كل تطلعاتنا : متى تمتلك مجتمعاتنا الوعي كي تصنع إراداتها الخيرة ؟
نشرت في مجلة الأسبوعية ، 21 حزيران / يونيو 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com