قام المفكر الأمريكي الراحل هنتغتون برسم خارطة ملونة للحضارات البشرية ، منها ما اطلق عليه صفة مكان كاليابانية وأمريكا اللاتينية .. ومنها ما أطلق عليه صفة دينية ، فقال بالإسلامية والهندوسية والارثودكسية .. وقال بالحضارات الهادئة والملتزمة وحضارات أخرى أصابها الصدع في التفكير ووهن الثقافة ، ولقد قام باستفزاز التاريخ العالمي ليثير نقاشات كبيرة بين منظري العلاقات الدولية وبين المؤرخين العالميين .. بين من يؤمن بالانعكاس الثنائي للتاريخ وبين من يعتقد أن التاريخ لم يعد بطيئا في حركته .. بل أسرع مما كان بكثير ، بحيث لا يستطيع الإنسان ، اليوم ، من متابعة الكم المذهل للمنتج ، وهو يتناقض مع الجغرافيا السياسية المؤثرة كما رسمتها أطروحة نهاية التاريخ فرانسيس فوكوياما التي لم يصل الأخير فيها ، إلى نتائج ما وصل إليه هنتغتون .
لقد توّسع هنتغتون في ” صدام الحضارات ” كونه وجد التاريخ يتغيّر لأول مرة بعد أن خبا دور الدولة لصالح الشركات والمصالح التي غدت تخطط للصراعات بين ” الحضارات ” من اجل إعادة تكوين النظام العالمي في العام 1996 ، وخصوصا بعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها اثر سياسات الوفاق بين القوتين العظميين وقت ذاك .. وبدا أن الصراعات الثقافية والإيديولوجية بين الكتلتين الرأسمالية الغربية والشيوعية الشرقية من الهشاشة بمكان ، بحيث انهارت ، كي تفسح المجال أمام حضارات كبرى مترّسخة في العالم ، كانت في ما سبق مختفية وراء ما يسمى بقوة الإيديولوجيات . لقد رسم هنتغتون محددا سبع حضارات ملونة مع احتمال وجود ثامنة ، فقال بـ الغربية ، والأمريكية اللاتينية ، والإسلامية ، والصينية ، والهندوسية ، والارثودكسية ، واليابانية .. ورجح وجود ثامنة مختفية ممثلة بالإفريقية .. وبطبيعة الحال ، فان لكل من هذه الحضارات ثقافاتها التي تعكس اللون الذي يميزها عن الأخرى . إن أهم نقطة استعصت على فهم العالم في تفسيره نظرية هنتغتون تتمثّل بالمفهوم الكلاسيكي للدول ذات السيادة والتي لم تعد مثل السابق ، وعليه ، فان الثقافة ـ وليس الدولة ـ هي في موقف المتناقض مع اضمحلال الكيانات القديمة في ريادة الصراع إبان القرن الواحد والعشرين ! وعليه ، فان أي كيان سياسي لم يزل يحيا حتى الآن ، عليه فهم المعادلة جيدا ، والدول الغربية في مقدمتها ، فكلها عنيدة في إدراك ما حدث من تغيرات جذرية ، وما رافقها من تبدل في طبيعة التوترات الثقافية .
إن صراع الحضارات هو اكبر من حجم ما يحدث اليوم ، فربما كان ذلك متبلورا بعد خمسين سنة من اليوم .. ولكنني اعتقد أن هناك صراع ثقافات ساخن ، وواسع النطاق في كل أرجاء البشرية .. كما أن مسألة إعادة تكوين النظام العالمي ، حسب النظرية الأمنية الأمريكية ، وإضفاء الشرعية على اختراقات تقودها الولايات المتحدة ضد الصين والعالم الإسلامي وغيرهما لا يعني انه مجرد صراع ثقافات ؟ انه صراع من اجل مصالح واستراتيجيات لا يعرفها احد حتى يومنا هذا . انه امتداد للصراع على مناطق نفوذ لما بعد الحرب الباردة .. ربما كان هناك ثمة تحوّلا في الجغرافيا السياسية ، وهتك للتاريخ المعاصر بسقوط دول ، وتغيير أنظمة ، وانحسار قوى .. ولكن الغرب يرى نفسه دوما بحاجة إلى تبرير أي صراع من اجل تقوية نفسه داخليا ! والتخلي عن سياسة فرض ” شعارات ” عالية ، و ” مفاهيم ” مثالية ، وهو يدرك أنه لا يمكن أن تنمو في بيئات متخلفة تماما .. وخصوصا أكذوبة تطبيقات حقيقية للديمقراطية العالمية .
ربما أخالف كل من وصف هنتغتون بالتبسيط واتهامه بالتعسفية كونه لم يأخذ بنظر الاعتبار الديناميات الداخلية التي تتحرك بموجبها القوى الاجتماعية داخل الأمم الكبرى ، أو الصغرى وما تجده من انقسامات دينية ، وتشرذمات طائفية ، وتجزؤات عرقية .. ومن صراعات سياسية حزبية وبقية التوترات الأخرى داخل الحضارات. إن ثمة صراعات دموية ، أو حادة جدا داخل الحضارة الواحدة ، ربما لا نجدها في الصين ، أو اليابان ، ولكن نجدها واضحة المعالم في الحضارة الإسلامية ! وليس حسب الجغرافيات وسيادة المفاهيم الكلاسيكية القديمة ، بل ضمن متغيرات ما حدث من انقسامات سياسية ومذهبية تقودها دول وأنظمة وأيديولوجيات وليس مجتمعات وثقافات .. فأسيئ للإسلام والمسلمين كثيرا من خلال سياسات دول وأنظمة حكم وشعارات أحزاب وتطبيقات قوى سياسية كلها نجدها في العالم الإسلامي اليوم .. بل وكان من المثير والسخف معا أن يبدأ هناك صراع طائفي سياسي وإيديولوجي بين عالمين سنّى وشيعي في بنية الحضارة الإسلامية ! لقد كان المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي أكثر إدراكا للحضارة الإسلامية من هينتغتون ، فالأول نظر إليها من الأعماق ، في حين نظر الثاني إليها أفقيا ! وإذا ركز الأول على الدول والأعراق والجغرافية .. اهتم الثاني بالأديان والثقافات المعاصرة .. وإذا كان الأول دقيقا في رسم ملامح التاريخ الحضاري الايجابي ، فان هنتغتون كان عموميا في رسم خارطة الصراع الحضاري سلبيا !
ولقد زاد الاهتمام بنظرية هينتغتون بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 . ووصف بأنه “واحد من العظماء الذين أنجبهم القرن العشرون ! إن خارطته الملونة ، قد أتت بأولى ثمار نظريته .. وبداية ظاهرة العولمة التي انساق العالم في سياقاتها مجبرا ، فلا خيار للدنيا كلها ، إلا التعامل مع العولمة بكل تعقيداتها ووسائلها . أخيرا : إلى متى سيبقى صراع الثقافات ساري المفعول إزاء هذا الدفق الهائل من ثورة المعلومات ؟ وهل سيدرك الإنسان حقائق جديدة في المستقبل .. لم يجدها عبر التاريخ في ثقافته ؟
البيان الإماراتية ، 13 مايو / آيار 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …