Home / الشأن العراقي / يكفينا نمشي على الجَمر ؟

يكفينا نمشي على الجَمر ؟



المسيحيون في العراق

الارادة المبعثرة
العراقيون يعيشون واقعا مضطربا ، ومتشظيا ، ومنقسما .. إنهم بين خندقين أساسا ، أو ثلاثة ، أو يتنقلّون بين عشرات الخنادق ليلا ونهارا .. وقد كثر المتعصبون من بينهم لأهداف لا يعلمون أجندتها ولا مرارة نتائجها.. أولئك الذين يريدون تصفية حساباتهم القديمة والجديدة من دون أي تفكير حتى على حساب صفوة من لا ناقة لهم ولا جمل إلا مصلحة العراق ! ويجعلون من أنفسهم كأي مفوضين باسم الشعب ليروجوا ما يريدون ، او ما يريدوه الآخرون منهم ، من دون أي إرادة أهلية حقيقية تنبثق عبر مؤتمر كبير ، أو رأي عام ؟ وأنهم قد اعتادوا على التصفيق لشعارات غير قابلة للتحقيق .. إنهم مندفعون وهائجون لأسباب ربما عاطفية ، وربما مادية ، وربما سياسية ، وهي بالضرورة خارجة عن أي إطار جمعي ، أو إرادة عامة ، ومن دون أن يتوقعوا نتائج ما يدعون إليه .. أو أنهم قد دُفعوا في هذا الطريق أو ذاك ! إنهم يخرجون دوما على الخطوط الأدبية التي تعرفها أعراف المجتمعات المحترمة ، فيخاطبون من هو أدرى منهم وأرفع منهم سواء بدرجته الدينية ، أو العلمية من دون أية تحفظات ولا أية حدود ! إنهم يخلطون الأخضر بسعر اليابس .. إنهم لا يقدّرون الناس حق قدرها ! إنهم لا يميزون بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون ! إنهم يخلطون بين الذين لهم باع في العلم ودراية في الحقائق .. وبين ساسة جهلة فارغين يسعون من اجل مصالحهم وجيوبهم ، وهم لا يفقهون أبجديات حياة العراق ! ولكن أولئك لهم حكمتهم ودرايتهم ، أما هؤلاء فلهم ملياراتهم وأجندتهم !

العلماء ليسوا بهلوانات في سيرك سياسي !
إنهم لم يقرأوا التاريخ كي ينازلوا من هو أعرف منهم ! إنهم اليوم يصفقون لأفكار لم يعلنوا عنها في ما سبق ، ولم يناضلوا من اجل تحقيقها في ما سبق ! كونهم بلا قضية حقيقية يمكنهم الخروج بها على العالم .. إنهم لا يدركون تشيؤات العراق ، فكيف يدركون معانيه ؟ لقد افتقدوا على امتداد خمسين سنة كل القيم وأصول المعاملات والأخلاقيات السامية ! لقد علمتهم العقود السوداء المنصرمة صناعة الفوضى ، والتصفيق ، والتجديف مع الأقوى ! إنهم ، لم تعلمهم التجارب شيئا أبدا . إنهم يعترضون اليوم على مصطلحات ومفاهيم عرفها العراقيون والعالم منذ أمد طويل .. إنهم يريدون لهم أسماء جديدة ، لا يمكن لها أن تستقيم أبدا والمنطق .. إنهم لا يعرفون أصول الحوار .. إن من يحاور أحدا ، عليه أن يدرك المستوى الذي هو فيه ، وسواء اختلف المرء أم اتفق ، فان على كلّ عراقي أن يميّز من يقابله على الطرف الآخر ، أو يدرك مع من يتحدث ؟ هل مع سياسيين عاديين يقبلون المناورة والشتيمة واللعب على الحبال .. أم مع مفكرين ومختصين لا يتنازلون عن الأحكام التي يقولونها ! الساسة لهم غير مواقف العلماء والمختصين .. الأول ينطلق من شعارات وقد ينتهي إلى مواقف تخالف المبادئ التي عمل من اجلها.. أما الثاني ، فينطلق من أفكار ومعلومات وقد ينتهي إلى نتائج تتفق والأحكام التي قالها ! فضلا عن هذا وذاك ، علينا أن ندرك أن من بين العلماء أصدقاء اخلصوا لنا ، وأوفوا بعهدهم معنا ، ووقفوا إلى جانبنا ، وكتبوا عنّا وعن تاريخنا وعن شخصياتنا أفضل الكلام .. فهل بعد هذا وذاك نأتي لنسفّه آراءهم بمثل هذا الأسلوب أو ذاك ؟

مشروع بلا إرادة شعبية
عندما نصفق ـ مثلا ـ لمشروع أسموه بالحكم الذاتي لجماعة ، أو أقلية ، أو قومية .. ، فهل عرفنا تجارب الحكم الذاتي في العالم ؟ هل أدركنا ضروراته بالنسبة لغيرنا ، وحجم من يتمتع به ؟ والأسباب التي تدعو إليه ؟ وهل ثمة إرادة حقيقية قد تشكّلت كي لا يضحى أي مشروع عامل انقسام بين الناس في أوضاع طبيعية ، فكيف والعراق يعيش أوضاعا خطيرة ؟ هل كانت الفكرة قديمة أم حديثة ؟ وهل يمكن أن يؤسس أي مشروع كهذا في مكان معين لا يمكن أبدا أن تجمع إرادة كل المسيحيين العراقيين فيه! فان لم تستطع جمعهم ، فأي ضرورة له إذن ؟ وعندما استخدمت في دراساتي ومقالاتي وكتبي تسمية ( المسيحيون العراقيون ) ، فهل أتيت بها من فراغ ؟ أم أنها موجودة منذ القدم ؟ وهل استخدمتها جماعة معينة دون أخرى ؟ وهل توقف العالم كله عن استخدامها ؟ وهل استخدمها سيار الجميل لوحده فقط دون العشرات من المؤرخين والمفكرين والمختصين ؟ وهل كان المؤرخ الأب فييه طيب الذكر وهو عالم ضليع ، قد امتنع عن تسمية كتابه ” مسيحيو الموصل ” ؟ وإذا أردت استخدام البديل ، فهل ثمة تسمية أخرى بديلة ؟ ولما استخدم مصطلح ( كلدو آشور ) قبل ست سنوات .. اعترض عليه قطاع واسع من الناس والمسيحيون في مقدمتهم وتساءلت : أين السريان القدماء أيضا ؟ ليأتيني اليوم من يعترض على تسمية الجميع بالمسيحيين ويطالبنا باستخدام تسمية ( الشعب الكلدو آشور سريان ) ! طيب ، وأين هم الأرمن ؟ وأين هم البروتستانت ؟ وأين هم السبتيين ؟ حتى وان كان هناك مواطن عراقي واحد له ملته أو قوميته ، فان له حقوقه في أن يذكر إلى جنب الآخرين ! إن المسألة ليست قومية حسب ، بل هي مسألة خصوصية عراقية معينة تتنوع فيها الأطياف .. وهذه الأطياف لا تجتمع قوميا ، بل ولا تجتمع طائفيا .. بل تجتمع باسم المسيحية .. وهل هناك أجمل من هذا بديلا عن التفكك والتسميات المتعددة التي لا يمكن لأي طرف أن يتنازل للطرف الآخر عن تسميته ! بل ولا يمكن لأية قومية أن تتنازل عن كنيستها .. ولا يمكن أن يحدث العكس !

العراق كله لكم
المسألة ليست عقائدية أو دينية ـ كما قال لي احد الأصدقاء ـ حتى لا يمكن لأي عراقي أن يتدخل بشأنها .. إنها مسألة وطنية بالدرجة الأساس ، فان اتفقت معكم أيها المصفقون على تأسيس مشروعكم للحكم الذاتي ، فليس من حقي بعد ذلك ، أن اعترض أبدا على أي مشروع مماثل ، أو مشابه لأي طيف من الأطياف العراقية الأخرى ؟ وإذا قبلت ما تطمحون إلى تحقيقه ، فان هناك قوميات وأطياف عراقية أخرى ستقول : نحن أولى بالحكم الذاتي قبل المسيحيين .. وهنا أقول : سيقول لنا التركمان ، بأن لهم الحق بالحكم الذاتي ! وإذا منح أي حق للحكم الذاتي لأي طرف من الأطراف ، فمن حق الصابئة أن يكون لهم حكما ذاتيا ؟ أين .. لا احد يعرف ؟ انتم تقولون سهل نينوى ، فأين مركزية هذا السهل تاريخيا ودينيا ؟ إن مركزه سيكون الموصل لا غير ، فالموصل مركزا قديما للمسيحية في الشرق ، ترتبط بها اغلب كنائس العراق قبل أن تتحول مركزية الكلدان في العالم من الموصل إلى بغداد .. وهنا تمنيت على من اعترض علّي أن يقرأ كتب التواريخ المسيحية ليرى كيف يتم اليوم الخروج على التاريخ .. أو ليقرأ كتاب الديارات للشابشتي ، ليعلم بأن الأديرة كانت منتشرة بشكل كبير بين بغداد والموصل منذ العصر العباسي الأول قبل ألف سنة ، وقد حدثنا عن 53 ديرا عامرا ! فهل تريدون يا ترى أن تحشروا كل مسيحيي العراق في قفص الحكم الذاتي ويترك كل المسيحيين العراقيين كل العراق ؟ وهذا يستحيل حدوثه ! أم تريدونه مقتطعا باسم المسيحيين العراقيين ليغدو ( بفر زون ) بين كيانين متصارعين كما يبدو ، ليتعرض للانسحاق والدمار لا سمح الله ؟

الانسحاق .. من كان وراءه ؟
إذا كان العرب قد سببوا لكم مشاكل اجتماعية أو سياسية جسيمة ، كما يصّور ذلك البعض ويزيد من إمعانه في ذلك ، فهل لم يسبب لكم غيرهم أية مشاكل عبر التاريخ ؟ وإذا كان المسلمون قد اضطهدوا المسيحيين .. فهل تتمثل المسألة بصراع ديني أم منطق قوي وضعيف في مجتمع متخلف ؟ وهل كان التاريخ كله اسودا، بحيث لم يجد المسيحيون نهارا واحدا مفرحا في حياتهم مع المسلمين العراقيين ؟ وإذا كان المسيحيون العراقيون قد تناقصوا بشكل كبير .. فهل كان ذلك جراء حروب أهلية دامية ؟ أم صراعات قاتلة ؟ وإذا كنت لم اعرفها ، فمن ذا الذي يخبرني بها وفي مؤلفات المؤرخين المسيحيين العراقيين أنفسهم ؟ الم يتعّرض العراق منذ ستمائة سنة إلى موجات سوداء من الغزوات والاحتلالات والدمار؟ الم تشعل القوى القبلية المحلية المتنوعة النار في القرى والأرياف ؟ الم يقتل نادرشاه الآلاف المؤلفة من أبناء القرى الذين لم ينجدهم احد ؟ الم يدّمر الزعيم القبلي كور مير عشرات القرى المسيحية على رؤوس الناس ويحرقها ؟ أتمنى على كل هؤلاء الذين كتبوا ضدي في بعض المواقع أن يقرأوا التاريخ جيدا ، ثم يقتربون مني ! عليهم أن يتأملوا في صفحات كتاب ” القصارى في نكبات النصارى ” إذ كتب شاهد عيان بعض فصوله ، ( وهو من منشورات دار سركون بالسويد 2004 ) .. فهل سيدرك من يقرأ ذلك عشر معشار الحقائق المغيبّة ؟ وأسأل : هل يدرك هؤلاء أين الصواب في ما أقول ، وأين الخطأ في الذي يذهبون إليه ؟ وإذا كانوا اليوم منفعلين ومندفعين بهذا الشكل أو ذاك لأسباب معروفة ، فإنني والله أخشى من الغد عليهم جدا .. وليعلموا جيدا أن الديمقراطية ليس من السهولة تطبيقها في بلاد مثل العراق الآن ، وهو في غمرة الصراع الدولي والإقليمي والداخلي .. فان كانوا يشعرون اليوم بثمة قوة ، فإنني أخشى عليهم وعلى كل العراقيين الآخرين من الانسحاق !

وأخيرا .. نحو ارادة خيّرة لكم
انك إن أردت أن تؤسس مشروعا حضاريا ، فعليك أولا أن تجمع إرادة كل المسيحيين من اجل إنجاحه .. ولا تمضي ونصفك الآخر يعارضك في ذلك معارضة شديدة ، هذا إذا افترضنا أن النصف يعارضك ، إن لم يكن اغلب المسيحيين العراقيين . إننا إن استسلمنا لأي مشروع كهذا ، فكأنما منحنا الآخرين شرعية من نوع ما لشرذمة العراق على أساس ديني وطائفي وعرقي ! إن أي مشروع يدعو للتجزئة ، سيشعل حربا أهلية لا هوادة فيها أبدا ! والحق أقول بأن ما وصلني من رسائل وما تلقيته من هواتف من أصدقاء مسيحيين عراقيين لا اعرفهم كلها تؤيدني في ما ذهبت إليه ! وإذا كنت قد ايدّت نيافة المطران الدكتور لويس ساكو في ما قال ، فليس لكونه ذلك الصديق القديم منذ أيام ( بين النهرين ) ، ولكنني أريد أن أحفظ للعراقيين وحدتهم الاجتماعية ليس إلا ، وان لا يتعرضوا بسبب أي مشروع للعزلة والانسحاق ! وان قلت مثل هذا الرأي والذي لمّحت إلى خطورة ” المشروع ” منذ ثلاث سنوات ، فهل ارتكبت جرما كبيرا ؟ نعم ، لقد قلت ذلك قبل أن يقول المطران ساكو كلمته ! مع أسمى اعتزازي به وبكل المسيحيين العراقيين مهما كانت ملتهم ، ومهما كانت قوميتهم ، ومهما كانت كنيستهم .. فهم عندي من أعز العراقيين .

نشرت على موقع الدكتور سيار الجميل بتاريخ 4 مايو / آبار 2009
www.sayyaraljamil.com

Check Also

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …