تسلمت البارحة صرخة رفعها العديد من الأساتذة الأكاديميين العراقيين الذين يعانون اليوم كثيرا سواء الذين رجعوا إلى الداخل ، أم الذين ما زالوا في الخارج ، وقد حاصرتهم الحياة الصعبة ، وأذلهم الزمن مذ خرجوا من وطنهم صاغرين متشردين في هذا العالم . لقد طالبني العديد من الزملاء والأصدقاء أن اكتب مدافعا عن حقوقهم، وموضحا معاناتهم .. واغلبهم ممن تجاوز الخمسين من العمر ، ولهم عوائلهم ومسؤولياتهم وأمراضهم وقد هدّتهم أوضاع العراق .. إنهم يصرخون من اجل أن ينقذهم العراق ، وهم يشعرون بالظلم ، عندما يجدون غيرهم من العراقيين يتمتعون بأكثر من حقوقهم ، وهم الذين تعبوا وقدّموا وبنوا أجيالا يجدون أنفسهم مهمشين ، مبعدين ، وأذلاء محاصرين .. خصوصا عندما يعلمون أن عراقيين يتمتعون برواتب خيالية يقبضونها شهريا ، وقد احتسبت لهم من خلال لجان خاصة .. وقد قبضوا على مبالغ كبيرة احتسبت عن كل الزمن السابق فضلا عن رواتب بآلاف الدولارات جارية طوال حياتهم !! إن هناك الآلاف المؤلفة من الأساتذة العراقيين قد اضطروا إلى الهجرة من العراق بوسائل هرب مختلفة ، والتشتت في هذا العالم ، لأسباب مختلفة سياسية واقتصادية ، إذ اغلبهم لحقهم العوز جراء راتب شهري يعادل دولارين أو ثلاثة .. إنهم لم يجدوا إلا أن يهربوا وينقطعوا عن مؤسساتهم التي أنذرتهم بالعودة .. ولكنهم لم يعودوا خوفا من تعاسة المصير ، أو عودة إلى حياة معدمة .. لقد تشّرد العدد الكبير من الأساتذة العراقيين حتى اليوم ، ولكنهم يطالبون بحقوقهم الوظيفية .. يطالبون بان تحتسب خدماتهم في أي مكان في العالم لأغراض التقاعد .. يطالبون اليوم بحقوقهم لا أكثر ، فهم هربوا من جحيم الحياة الصعبة وكان هناك من فصلهم من وظائفهم .. نعم ، لقد أضناهم العيش وكبرت أعمارهم ، وثقلت مسؤولياتهم ، وأنهم بحاجة وعوز اليوم .. وهم عراقيون لم يشاركوا بقتل احد ، واغلبهم كانوا قد أدوا خدمتهم العسكرية بأسوأ الظروف . فلماذا يحرمون من حقوقهم ؟ ولماذا يمنح غيرهم آلافا من الدولارات شهريا ، وهم لا يملكون ما يسدون به رمقهم ؟ إن القانون في دولة القانون ينبغي أن يسري على الجميع ، فليس من الإنصاف والعدل أبدا أن يتسلم غيري آلاف الدولارات شهريا كونه احتل منصبا لمدة وجيزة في الدولة بعد سقوط النظام السابق سنة 2003 ، وأنا لا استحق حقوقي وكنت قد خدمت لعدة سنوات في مرافق الدولة ، وعانيت من الأمرين ؟ وليس من العدل أن تصرف للكثيرين رواتب عقود من السنين كونهم معارضين سياسيين كانوا في الخارج وهم لم يشتغلوا في الدولة وتجري رواتبهم مدى حياتهم بالدولار .. والآخر عمل وداوم واهين ونال قسطه من الإذلال والحرمان ما يكفي ولكنه يعيش الكفاف اليوم ؟ .. إنني الفت نظر السادة المسؤولين العراقيين ، أن العراقيين كلهم أبناء وطن واحد ، ولا يمكن أن يتم تمييز هذا عن ذاك ، إلا بكفاءته وما قدمه للعراق والعراقيين .. لابد أن تسود المرونة في تطبيق القانون على الجميع ، لا أن يستسهل الأمر هنا ويصّعب هناك .. المتقاعدون الذين هاجروا تجمع حقوقهم متى طالت غيبتهم ليستردوها ، ولا يمكن أن يسقط حقه بعد غياب 5 سنوات ! إن التعسف لم يزل ساري المفعول في الدولة العراقية إزاء المجتمع العراقي .. لماذا ؟
يقول واحد من الطلبات : ” خلال السنتين الماضيتين صدرت عن مسؤولين في الدولة شعارات عن إجراءات لإصدار قوانين جديدة تعمل على أنصاف الموظفين والمتقاعدين وتحقق لهم كرامتهم ، وفعلا صدر قانون الخدمة الجامعية ألذي أعطيت فيه حقوق ممتازة للموظفين والمتقاعدين وجاء واضحا فيه أنه يشمل المتقاعدين السابقين , حتى إذا ما انتقل القانون هذا إلى مرحلة التطبيق ، أصدرت وزارة المالية تعليمات تحدد من يشملهم القانون بأولئك الذي تقاعدوا بعد سنة 2005م. مما يعني إلغاءا لحقوق ألمئات بل الآلاف من الأساتذة العراقيين سواء في الداخل والخارج ، الأمر الذي زادهم إمعانا في المعاناة وذلك بإبقائهم في حالة من العوز الشديد والحاجة والشعور بالأسى. وهنا يتساءل الآلاف من العراقيين : أين أذا حقوق الإنسان من هذا ؟
وأين هي الشعارات المرفوعة من هذا الذي أصدرته وزارة المالية ؟ ومتى كانت التعليمات أقوى من القانون !؟ ويستصرخ البعض أن هناك مئات من أساتذة الجامعات وغيرهم من موظفي الدولة ممن اضطروا إلى مغادرة العراق لأسباب معروفة ومبررة بحثا عن أماكن يامنون فيها على حياتهم وحياة أسرهم .وقد كانوا يتطلعون إلى رعاية الدولة لهم وإنصافهم وذلك بإعادتهم إلى وظائفهم ، أو منحهم الحقوق التقاعدية التي يستحقون . إن هناك من تقدم بطلب أحالته إلى التقاعد ، وقد صدرت لهم بذلك أوامر جامعية ووزارية ، وعندما وصلت معاملاتهم إلى دائرة التقاعد ، رفضت هذه الأخيرة تسلم معاملاتهم بدعوى أنهم يعتبرون في عــداد المستقيلين وموضوعهم أنهم غادروا العراق وللأسباب التي ذكرت أعلاه للتدريس في جامعات عربية ولم يقدموا استقالات ، بل خرج كثير منهم بموافقات جامعاتهم الرسمية ، وعندما انتهت أجازاتهم خارج العراق ، صدرت – كالعادة- من جامعاتهم قرارات باعتبارهم مستقيلين من وظائفهم بعد مضي فترة محددة ، كما هو معمول به إداريا في البلاد. أذا ، فهم في ضوء ذلك لم يستقيلوا بل اعتبروا مستقيلين ، فلماذا والحالة هذه تمتنع دائرة التقاعد من تسلم وتمشية معاملاتهم التقاعدية ؟ وتنكر بذلك عليهم حقا قانونيا ودستوريا وإنسانيا في الوقت الذي تصل فيه خدمات بعضهم في الدولة إلى الخمسين عاما ، وقد استوفيت عنها التوقيفات التقاعدية منهم حسب الأصول ! ولدى مراجعة بعـض من تقدم بإحالته إلى التقاعد من المذكورين أعلاه في الفقرة السابقة إلى دائرة التقاعد مع موافقة وزارة التعليم العالي ، ألا أن دائرة التقاعد العامة لم تستلم معاملاتهم بدعوى :- أن كلّ من أعتبر مستقيلا خلال الفترة من 1996- 2003 م , لا يستحق راتبا تقاعديا وذلك – حسب قولهم – استنادا إلى تعليمات لديهم بهذا الخصوص! وهنا لا ندري ما هي تلك التعليمات؟ ومن الذي أصدرها؟ وأين نشرت ومتى بالضبط؟ لقد فتش هؤلاء في كل المصادر ، وفي الوقائــع العراقية ، وكذلك السؤال من المطّلعين من المحامين ومن ذوي الاختصاص .. والكل قال: لا توجــد هكذا تعليمات ، وهكذا ظل هؤلاء الزملاء تائهين ماذا عساهم يعملون أمام من ينكر عليهم أهمّ وأقدس حقوقهم ورزق عوائلهم بعد هذا الزمن الطويل الصعب من حياتهم ومعاناتهم !
ويؤكد آلاف الأكاديميين العراقيين قائلين : إن ما ينبغي تأكيده هنا ، أننا خدمنا وطننا وأبناءه بكل تفان وإخلاص ، ولم ندخر جهدا ، إلا وبذلناه ، وبكل تفان ونكران ذات ، وخلال عشرات السنين من الخدمة المخلصة ، وقد تخرّج على أيدينا خيرة أبنائنا وأبناء الأقطار الشقيقة الذين _ وبكل اعتزاز_ تبوأوا مراكز علمية وإدارية يفتخر بها الوطن ، والآن ونحن نعيش في المهجر وبلاد الغربة نعاني من فقدان فرص العمل ، وأي مصدر للعيش وحق التقاعد ، نقول أن بلدنا هو الذي من المفروض أن يصون كرامتنا ويهتم بتوفير العيش الكريم لنا. لقد كنا قد رفعنا اسم العراق عاليا من حيث المستوى العلمي والضبط والدقة والكفاءة النادرة .
لقد صدرت في بلدنا خلال العام الماضي دعوات إعلامية كثيرة سواء من مسئولين على صعيـد مجلس الوزراء ، أو وزارة التعليم العالي بأن العراق يفتح ذراعيه واسعا لعودة أبنائه من الأساتذة والعلماء المهجّرين والمهاجرين ، وهو مستعد لأعادتهم إلى وظائفهم ، ومنحهم امتيازات شتى نصّ عليها بما لا يقبل اللبس والاجتهاد ، ومنها قرار مجلس الوزراء الموقر رقم ( 441 لسنة 2008 ) المؤرخ في 17/12/2008 . هذا وقد أستثنى ذلك القرار الأساتذة من شرط العمر، فماذا لا يفّعل ذلك ؟ إن عدم أعادة الأساتذة والعلماء بدعوى عامل السن هو أمر غير مبرر لأنه يحرم مؤسساتنا التعليمية من تخصصات وخبرات كبيرة ومهمة .
إنني أهيب بالسادة المسؤولين العراقيين ، أخذ هذا ” الموضوع ” بالاهتمام من اجل مواصلة السعي من أجل عودة الحقوق لأصحابها ، حفاظا على كرامة أساتذتنا ورجالات العلم العراقيين الذين يكفيهم بهذلة وإذلالا ومشقة وصعابا ..
وأخيرا ، إن هذه الصرخة رغم أنها تخص شريحة الأساتذة الجامعيين وتطرح قضية جامعـّية ، ألا أنها تساند في الوقت ذاته كلّ دعوة مخلصة لأنصاف الشرائح الأخرى من المجتمع العراقي ألذي ضحّى كثيرا وتحمّل من أوزار الحروب والفساد الإداري والمالي وانعدام الخدمات بما لا تطيق حمله حتى الجبال . دعونا نبقى متابعين لهذا الشأن من اجل إحقاق كلمة حق وإنصاف لكل العراقيين وتحقيق مجتمع العدالة في دولة القانون .
جريدة الصباح ، 5 آذار / مارس 2009
وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …