الرئيسية / افكار / الحركة والصمت !!

الحركة والصمت !!


رحيل الايديولوجيا وتبلور قوة المعنى
على هامش ندوة واحدة من عشرات الندوات التي أقيمت مؤخرا حول جارلس دارون ونظريته في التطور والبقاء للأصلح .. يتلمس المرء أن جملة من المثقفين الحقيقيين في العالم ، من الذين احترفوا القراءات النقدية ، والمعرفة المجردة ، وتكنولوجيا المعلومات ، والشجاعة الأدبية بعيدا عن الثرثرة والأوهام وكتابة الإنشاءات والتزام الصمت .. لقد باتوا يختبرون ” النصوص ” بالمزيد من التأمل والفلسفة ومناهج النقد .. لقد خرجوا من عصر الايدولوجيا بعد أن مضى أكثر من جيل في القرن العشرين .. وهم لم يختبروا جيدا في هذا العصر قوتهم المعنوية الهائلة، إلا في حرب فيتنام خلال ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي، مستندين على الانعكاس الثنائي للقطبين الرأسمالي والاشتراكي في ذاك العالم الذي كان يمر بحرب باردة متأججة .. كانت الحركة قد أخذت العالم إلى حيث الاهتمام بانقسام العالم .. ناهيكم عن أن العالم كان يمر بتغيرات اجتماعية ، وتحولات سياسية ، ومؤثرات أيديولوجية كبيرة، منها الثورة الطلابية والشبابية، وصعود اليسار في العالم الذي انتمى إليه كثير من اولئك المثقفين الحقيقيين ، كانوا من عيار عالمي ثقيل، كجان بول سارتر وميشيل فوكو وشتراوس وسيمون دي بوفوار والبير كامي وغيرهم . وللعلم ، فان سارتر لم ينجح فقط في تحريك المثقفين الفرنسيين لصالح وقف الحرب في فيتنام، بل حرض أيضا المثقفين في أميركا نفسها وفي أوروبا، خالقا بذلك تيارا ثقافيا ومؤدلجا عالميا ضاغطا لا يمكن تجاهل تأثيراته البالغة على آلاف الناس .. وهذا ما لم يستطع فعله المثقفون العرب ليس لأنهم لم يشتغلوا بالسياسة ، بل لأنهم واقعون ضمن اسيجة تحيطهم ولا يعرفون معنى الحرية أبدا ! إن الحركة لم يعرفها المثقفون العرب حتى الآن ، وإذا كان بعضهم يتجاوز الخطوط الحمراء ، فهو أما أحمق في الداخل ، وأما شجاع في الخارج ! كنت أتمنى أن تخضع الداروينية التي شغلت ولم تزل تشغل كل العالم .. للمعالجة والتأمل وإعادة النظر والمقارنة والمقاربة في ثقافتنا العربية .. ومحاولة معرفة جذورها عند الجاحظ وابن خلدون والمعّري وغيرهم بدل الصمت المطبق حيالها، فلا التراث ينطق بحرية وانطلاق في ثقافتنا المعاصرة، ولا المناهج الفلسفية المعاصرة متداولة ومقروءة بشكل علمي واضح !

حركة اردوغان وصمت عمرو موسى
ثمة حالات قليلة في عصرنا الحالي تشكل فيها مثل هذا التيار الثقافي، بل على العكس من ذلك، صمت مثقفون في الغرب في الوقت الذي كان يجب أن يصرخوا، كما حصل في عهد ستالين مثلا. وهذا ما أدانه الروائي البريطاني مارتن أميس في كتابه الأخير (كوبا.. الرجل المرعب) الذي طرح فيه سؤالا مركزيا على المثقفين الغربيين قاطبة : لماذا سكتم عن اضطهاد زملائكم في روسيا أثناء حكم ستالين؟ وهو السؤال نفسه الذي يثيره المثقفون العراقيون بوجه أصدقائهم العرب الذين سكتوا سكوت أبو الهول وسكنوا وصمتوا على اضطهاد إخوتهم العراقيين في الدواخل والشتات أثناء حكم صدام حسين ؟ وإذا كان المثقفون الغربيون قد أثارتهم وأحزنتهم مجازر ستالين حتى الأعماق ، مما جعلهم يدينون سياساته وهو الذي تحالف مع الحلفاء ضد هتلر ، فان المثقفين العرب لم يكتفوا بصمتهم وسكوتهم ، بل راحوا يبحثون دوما عن رموز بطولة .. والعرب كلهم في حالة انهزام واسع النطاق .. انهزام ليس على مستوى معركة عسكرية ، بل على مستوى معركة فكرية .. إن عصرا من الحريات إن انفتح عند شعوبنا كلها ، فسنجد سريان حركة واسعة النطاق ليس لإثبات الذات ، بل للتفاعل الحقيقي مع العصر.. ومن المؤسف أن هؤلاء جميعا يمرون بأزمة حادة من تناقضات يحملونها ، وهم يكذبون على العالم من خلال أقنعتهم التي يلبسونها في كل تهريجاتهم باسم المبادئ والشعارات ! فالفرق كبير بين حركة اردوغان وصوته ، وبين صمت عمرو موسى وتلعثمه !

التيار الثقافي بين عالمين
صحيح ان كبار المثقفين الغربيين قد اتخذوا مواقف آنية من مسألة الحرب ، ولكن لم يشكل ذلك أبدا تيارا ثقافيا عالميا في معارضة التغيير السياسي في العراق . ولقد ميزوا بين الحرب بكل كوارثها ، وبين حاجة العراق إلى التغيير السياسي الجذري ، ففي بريطانيا مثلا، نشر شاعر البلاط البريطاني اندرو موشن، قصيدة ضد الحرب في الصفحة الأولى من جريدة «الغارديان» ولكنه لم يقف مع الطاغية ولا مع كوارثه ضد شعب العراق والتي أدانها إدانة صريحة ، وكذلك فعل الكاتب المسرحي الشهير هارلولد بنتر. وفي المظاهرة الضخمة التي خرجت في لندن، تقدم كتاب ومثقفون مثل الروائي وليم سيلف الصفوف الأولى من تلك المظاهرة ، ولكنه صّرح مرارا وتكرارا بأن العراق لابد أن ينفتح على العالم ، ويتخلص شعبه من الاستبداد ويتنسم عبير الحرية . وصحيح أن في أميركا من وقف ضد الحملة وضد الحرب ، وهم كتاب وشعراء ومثقفون وأكاديميون من طراز سام هاول، ولورنس فيرلنغيتي، «أبي» الشعر الأميركي المعاصر، وسينمائيون من طراز وودي الن، وسبايك لي، وغيرهم، إضافة للأسماء الثقافية الكبيرة المعروفة بمعارضتها التقليدية لسياسات الإدارة الأميركية ، إلا أن ساعة الصفر عندما دقت دقاتها الأولى ، وبدأ الهجوم وبدأت أيام الحرب تتوالى ، اندهش العالم كله من سقوط النظام السياسي العراقي بسرعة خاطفة مخلفا وراءه خسائر كبرى . وكما حدث في فرنسا وبريطانيا وأمريكا وكندا ، حدث في ألمانيا ، إذ ارتفعت أصوات كبيرة ومؤثرة منها صوت غونتر غراس، إلى جانب الفيلسوف يورغين هابيرمس وعشرات آخرين.

وأخيرا : ماذا يعلمنا هذا الخطاب ؟
انه يعلمنا كم هي الفوارق كبيرة بين المثقفين في العالم ، أي بين الذين يتمتعون بإرادتهم الصلبة وحركتهم الواسعة من اجل صنع الإبداع ، وثبات المواقف ، وقوة الكلمة إزاء نخب من كّتاب وأصحاب قرار ومثقفين عرب وغير عرب يتوزعون متشرذمين وما زال بعضهم من المؤدلجين ، وبعضهم الآخر يرقص من هذه السلطة أو تلك ، وبعضهم أنصاف مثقفين . لقد نجح المثقف والمبدع في أجزاء معينة من العالم اليوم أن يؤثر على نخب مثقفة أخرى في العالم ، ليس من خلال الكتابات فقط ، بل من خلال الاتصالات الحديثة . إن المثقف الحقيقي في هذا العالم، لابد أن يبلور موقفه ، ويعلن عن رأيه .. إن المثقف الحقيقي هو ضمير مجتمعه نحو التقدم لا التراجع، ونحو المستقبل لا الماضي. إن المثقف الحقيقي لابد أن يقول ( لا ) لأي مستبد، ولأي متجاوز ، ولأي مخطئ .. إن المثقف الحقيقي لا يمكن أن يكون منتميا لحزب سياسي، ولا يمكن أن يتخندق مع طرف ضد آخر .. ربما يكون مؤمنا بفكر معين ، أو بتيار معين .. ولكن شريطة أن لا ينساق وراء أخطاء الآخرين وهوسهم .. على المثقف الحقيقي أن لا يكون بوقا لأي سلطة ، وإلا وصف ذيلا ، أو بيدقا .. إن نخب المثقفين في العالم .. تلك التي احترفت الحركة لا الصمت ، هي التي عرفها المجتمع الإنساني .. وهي التي تخلق ” الحالة ، أو ” الظاهرة ” .

نشرت في ايلاف ، 27 فبراير / شباط 2009 . ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …