إن النظام الامبريالي الذي ساد في القرن العشرين ، وتحداه النظام الاشتراكي ، فسقط الأخير وبقي النظام الامبريالي يترنّح مع طغيان أعمى لتوحش رأس المال ، وغيبوبة الدولة ، وضراوة الشركات عابرة القارات ، فكان أن اخفق اليوم إخفاقا مريرا ، إذ لم يعد يتجانس مع ضرورات العصر .. فكانت الأزمة المالية التي قادت إلى الركود ، ومن ثم الكساد وسحبت أمريكا العالم كله معها وتعثرت كل الأسواق العالمية عند مطلع العام 2009 ، وهي السنة التي ستكون أصعب سنوات هذه المرحلة التي سينطلق منها نظام كابيتالي جديد نحو القرن الواحد والعشرين .
في العام 1997 ، أي قبل 12 سنة من اليوم ، كتبت عن انعكاسات العولمة الجديدة ، قائلا : ” إن العولمة الجديدة بمحاورها الأساسية ، ستنتج المزيد من الأفكار والأساليب التي تتحكم اليوم وحتى العام 2009 ، بأوضاع العالم الصعبة .. وربما أنبأتني بعض التقديرات المستنبطة .. عن المرحلة الانتقالية المعاصرة حتى عام 2009 ، وما سينعكس على مصائر الكرة الأرضية .. وما سينتج عنها من تداعيات ونتائج وترسبّات صعبة : دولية وإقليمية ومحلية وعلى مختلف المستويات ” . وأتابع قائلا : ” كل هذا وذاك سينتجان ـ حتما ـ انطلاقة من نوع ما هو مخطّط له ومرسوم إليه في القرن القادم ( اقصد القرن 21 ) ، إذ سيشهد المستقبل المنظور ، جملة من التحولات التاريخية الكبرى Historical Transmutations بعد عام 2009 ، وعلى امتداد جيل كامل (= 30 سنة ) ، أي حتى العام 2039 ، تلك التحولات الرأسمالية الاقتصادية المروّعة التي ستنتج تفاعلات بالغة الآثار والخطورة في العالم ، وخصوصا في المجالات الحيوية منه .. ” انظر : كتابي ” العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الأوسط : مفاهيم عصر قادم ” المنشور ببيروت : مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق ، 1997 ، ( ص 279- 280 ).
إذا كان العالم قد دفع الكثير من مدخراته وثرواته وأتعاب شعوبه نحو الفراغ .. فان أوروبا معرضة لان تدفع ثمنا اكبر مما تدفعه الولايات المتحدة لأنه من الصعب للاتحاد الاوربى الذي يضم 27 دولة أن يستجيب للازمة بنفس سرعة واشنطن. وحاول كل عضو بالاتحاد الاوربى من جانبه مكافحة الأزمة. وكانت استجابتهم المتفرقة مبعث قلق للأسواق المتعثرة. وأرجع قادة الإتحاد الأوروبي بوضوح الأزمة المالية إلى فشل رأسمالية السوق الحرة في الولايات المتحدة .. وإذا كانت أمريكا تتحمل مسؤوليتها الكبرى ، فان العالم كله قد اشترك معها في ضروب من الجنون .. ويدفع اليوم أثمان تلك ” الهرولة ” بالرغم من اعتراف الكل بأن ما حدث لا يمكن اعتباره أزمة الرأسمالية نفسها ، بل أزمة نظام منفلت الرؤية ، ومتوحش الأبعاد ابعد نفسه عن أهم قيم الرأسمالية .. وان الضرورات تقتضي ولادة نظام اقتصادي يكون للدولة فيه شأنها للإشراف ، وللدول مبادئها واتفاقياتها .. ولا تبقى الشركات من دون أي قيود ولا أي ضبط ولا أي ربط ولا أي حماية .. مع التقليل من الجشع ، والاندفاع نحو إصلاح النظم ، وقواعد اشد صرامة بشأن صناديق التحوط, وقواعد جديدة لشركات التقييم الإئتمانى, وحدودا لرواتب المسؤولين التنفيذيين. والحد من الهيمنة الأحادية في الاستقطاب مع تعزيز الإشراف الدولي على تلك المؤسسات المالية العملاقة.
وأخيرا نتساءل: هل مفهوم ” التغيير ” الذي حمل مشروعه الرئيس الأمريكي الجديد ، سيساعد في إجراء التحولات التي توقعت حدوثها منذ أكثر من 12 سنة ؟ أقول : نعم ، ولكن ليست بالسرعة التي يتأملها السياسيون ، ذلك أن العام 2009 ، سيشهد مخاطر جسيمة جراء ما حدث للعالم خلال العقدين المنصرمين ، ولكنني اعتقد أن في هذا العام ، ستجري تغييرات كبيرة ، تأسيسا لنظام اقتصادي ورأسمالي جديد باستطاعته أن يقود العولمة الجديدة نحو آفاق القرن الواحد والعشرين ، وخصوصا خلال الثلاثين سنة القادمة من مستقبل البشرية .
نشرت في البيان الإماراتية يوم 28 يناير 2009 ، واعيد نشرها في موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com