في لقاء عابر جمعني البارحة بالزميل بوب بوكانان بقسم الاعلام ، جامعة رايرسن بتورنتو ، وبدأ حديثنا عن العراق ، ولكن انتقلنا الى متغيرات العالم لما بعد عهد بوش .. ويصّر بوكانان على ان النظام العالمي الجديد اصبح في خبر كان ، وليس لاميركا الا ان تودّعه بعد ان عاث فسادا في العالم . قلت : ولكن الفساد لم يأت فجأة حتى ينتهي فجأة .. وهل سيصبح العالم جنة عدن ؟ قال : ان ساركوزي يردد الان : لا تدعه يعمل ، بل دعه يمر! قلت : هكذا وببساطة بعد خراب الدنيا وحرائقها ؟ قال : لابد اذن اعادة بناء العالم على اساس نظام مالي ونقدي جديد يبدأ من أسفل إلى أعلى ، باعتماد طريقة بريتون وودز بعد الحرب العالمية الثانية. قلت : نعم ، فرنسا تتذكر اتفاقات بريتون وودز بالفعل عندما وقعت في يوليو 1944 ، اثر احتلال المانيا باريس. ان الأوروبيين يبحثون اليوم إيجابيا كيف يجتمعون بعد ايام في واشنطن ، حيث يأملون فرض نظام اقتصادي عالمي جديد .. ؟ عقّب بوب : ان الامريكيين سيفتحون حوارا مع الاوربيين ، وصولا لما يجب أن يكون للمؤسسات حياة جديدة! واضاف : مع بناء هيكل مالي جديد للسنوات المقبلة . قلت : وهل ستقبل الولايات المتحدة ما كانت قبلته بريطانيا بعد الحرب الثانية ؟ اجاب : ليس امامها الا الاذعان كي تعيد هيبتها في العالم . صحيح ، انها لم تصل مرحلة الاذلال ، اذ انها قادرة على التأثير عالميا ، ولكن النظام العالمي الجديد يعيش اخفاقا . قلت معقبّا : كونها امتلكت احاديته ، ولم تشرك غيرها فيه . قال : اوروبا الغربية مع اليابان فقط .. قلت : والصين ومجموعة الآسيان ؟ قال : يستحيل حدوث ذلك . قلت : وما رأيك بالعالم الاسلامي وعالم الجنوب ؟ اجاب : اعذرني ان قلت لك بأنهم لا يعرفون الا الثرثرة ، وليس لهم الا مؤتمرات الحوار التي لا تنتج ولا تنفع شيئا ! قلت له : ولكن مصائر الشعوب ليس لعبة بايدي الكبار . اجاب : هذا منطق التاريخ . قلت : وبيد من سيكون العالم ؟ قال : ان غوردون براون وساركوزي سيكونا في واشنطن لما يمكن وصفه باجتماع تاريخي للG20 المتحدة. قلت : انها قريبة من بريتون وودز .. اذ ستملي الولايات المتحدة الشروط التي ستحرك من خلالها الاقتصاد العالمي ، وتحفيزه على العمل . قال : ينبغي ارتباط الدولار الأمريكي بالذهب ، وكان ليصبح عملة احتياطي في العالم ازاء غيره من العملات في أسعار الصرف الثابتة. هنا ستنطلق الدعوة إلى التغيير من خلال ضرورة إغلاق مؤسسات الائتمان وأسواق المشتقات الائتمانية في العالم .. أمريكا قدمت الجزء الأكبر من التمويل لمؤسسات جديدة ويفترض ان تحصل على نصيب الأسد من السيطرة. قلت : ان العالم اليوم بحاجة ماسة الى نخبة ذكية جدا على غرار الاقتصادي البريطاني الشهير ، جي أم كينز الذي اعتمدت بريطانيا افكاره في النصف الاول من القرن 20 ، بتأسيس نظام عالمي جديد للبنك المركزي ، وتسوية مشكلات العملة في العالم من جديد .. فهل ستقبل اميركا مثل هذا الطرح ام لا ؟ قال : ان نظام بريتون وودز يمكن اعادة جدولته ، وكان قد استخدم على عهد ريتشارد نيكسون ، عندما تعرضت بلاده لنزيف في الذهب عام 1971 . لقد قدم نيكسون خدمات تاريخية لبلاده ، عندما انتقد سياسة اغلاق النافذة ، فكان خفض سعر الدولار فضفاضا والسماح بالتعويم أمام العملات الأخرى.
قلت : ولكن الاوربيون اليوم لا يملكون شيئا من هذا القبيل ، اذ ان هيمنة اميركا اكبر على العالم ، وهي لا تقارن باوضاع 1944 . فعقّب قائلا : ان تجارب الاوربيين التاريخية خطيرة ، ولم تجازف بريطانيا او فرنسا باتخاذ قرارات لاستراتيجيات وهمية ! ان براون يريد ان يغدو صندوق النقد الدولي بمثابة بنك مركزي عالمي يديره مجلس احتياطي اتحادي للاقتصاد العالمي. لكن الاميركيين لن يقبلوا بتمويل مثل هذا البنك ، ولا يمكن ان يتنازلوا عن السلطة فيه .. كما لا يريدون التقيد باية التزامات او املاءات !
قلت : ان براون وساركوزي يعتقدان اذن بولادة حقبة جديدة من التعددية ، فالاستقطاب الامريكي لا يمكن ان يعيش ازاء الانعكاس الثنائي في التاريخ ، وولادة اقطاب يمكنها ان تلعب ادوارا كبرى بعد تجربة بوش السيئة من خلال الاحادية الامريكية . نعم ، ان الاوربيين ربما يحلمون بالمشاركة في الاستقطاب ، ولكن ليس قوميا كما كان ذلك في القرن 19 ، ولا عالميا كما في القرن 20 ، بل تعدديا كالذي سيجري في القرن 21 .. تعددية تشارك فيها الصين ، والهند والبرازيل . اجاب : ولكن الولايات المتحدة رفضت بروتوكول كيوتو حول الاحترار العالمى بحجة الجمركية الحمائية ، وأي فلسفة خارجة عن ارادتها من شأنه أن يدمر الاقتصاد العالمي. وحتى لو وافق اوباما على تغير المناخ العالمي ، فلن يكون ذلك مع بكين ! ولن يقّدم أي تنازلات امام روسيا التي تستعد لاستخدام حق الفيتو في مجلس الأمن لحماية مصالح ينظر إليها كقوة عظمى. قلت : سوف لن تبقى اميركا احادية القطب ، اذ ان العالم سيكتشف ان العالم الجديد متعدد الاقطاب ، وسيعمل مندفعا ضمن سيرورة العولمة الجديدة . ان النظام العالمي الجديد امام ركلة جزاء اوربية .. فهل ستفوز اوروبا للمشاركة في التعددية القطبية ؟
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 19 نوفمبر 2008 .
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …