من مشكلات التفكير في اغلب مجتمعاتنا اليوم ، التماهي مع الافكار الرائجة الجديدة التي تّقدم السياسة وتناقضاتها على حساب الاوطان ونزعاتها ، وفشل كلّ مشروع للاصلاح والتحديث بحجة دعاوى معينة ، ويبدو انه لم يعد للمفاهيم الوطنية اي اعتبار ، اذ غدت مجرد شعارات تخدير في الخطاب الاعلامي .. في فلسطين ، كان النضال من اجل تحرير وطن سليب ، فاصبح من اجل ولادة قيصرية لدولة ! في لبنان ، كان الصراع من اجل وطن متعايش ، وغدا من اجل سلطة طوائف ! في ايران ، كان النضال للخلاص من قبضة شاهنشاه ، فسقطت بيد وليّ فقيه .. في العراق ، تشدقّت المعارضة بالحريات ، وامسى الوطن مقاطعات ومليشيات وخطوط زرق وحمر .. في السودان ، كان السعي لوحدة وادي النيل ، وبات يتشرذم .. في مصر ، كان الطموح ريادة الامة العربية ، وغدت منكفأة بمشكلاتها الصعبة .. في الجزائر ، كان التاريخ قد اعاد ولادة وطن بعد تاريخ استعماري مقيت طويل ، وغدت اليوم تعيش تناقضات لا حدود لها .. اليمن بالرغم من توحده بين شمال وجنوب ، الا ان سطوة القبيلة لم يزل معرقلا لأي توحيد .. الخ وهكذا سلسلة من اوطان لم تعد تعرف نفسها .
والمشكلة الاساسية اننا نفتقد مع تقدّم الزمن افضل النخب ونستقبل اسوأ الجماعات .. لقد تعايشنا مع كل الهزائم على امتداد نصف قرن مضى .. وانتقلنا من بدايات نهضة وحياة الى حالات صمت وسبات .. وهزلت الدولة العريقة بعد هيبتها على ايدي الطفيليين الجدد وملياراتهم .. نعم غدت مقترنة بالسلطات لا بالمؤسسات ، وبالطغيان وهشاشة النظم ، لا بسيادة القانون .. وها قد مضى قرابة الثلاثين عاما على هول التراجعات ؟ فما هي رؤيتنا لثلاثين سنة قادمة في عالم يزداد تسارعه التاريخي ، وتتسع عولمته الاقتصادية ، وتمتد مدياته الاعلامية .. ؟؟ لماذا لم نشعر بحاجتنا للتغيير من دواخل حصوننا المهترئة ؟
ان أوطاننا لم يصنعها الآخرون فهي قديمة قدم التاريخ ، وان اي دولة تقوم كمؤسسات على تراب وطني ، ويعيش عليه شعب ، فان مفهوم ” الامة ” يصبح تحصيل حاصل . واذا كانت بعض الاوطان يستوطنها منذ القدم بشر من غير العرب ، فلا يمكن ان نلغيهم بجرة قلم او رفع شعار ؟ فهي قوميات عريقة يمكنها التعايش من دون اثارة نوازعها ضد العروبة ، كما حدث في خمسين سنة مضت . ان باستطاعتنا ان نجعل ” العروبة ” هوية انسانية من دون اي شوفينية ، وباستطاعتنا ان نجعل مجتمعاتنا منفتحة بلا اي انغلاقات . ان ما ينطبق على العرب يستوجب سحبه على القوميات الاخرى ، اي على الاكراد والتركمان والامازيغ والكلدان والسريان والارمن واليزيدية والاقليات الاخرى التي لابد ان تجد فرصها التاريخية في التعايش ومبادلة التسامح واستمرار الشراكة ، فلا مجال ابدا لاشعال اية صراعات داخلية تخسر كل الاطراف كل حياتها ومستقبلها في اوطانها جميعا .. ناهيكم عن الانقسامات الدينية والمذهبية والطائفية .. ضمن متاهة تزدحم بالمشكلات والتعقيدات ، وتتطلب حلولا سياسية تتشابه الى حد كبير في عموم العالم الاسلامي المعاصر .
كثيرا ما يأتي الذبول التاريخي عندما تتآكل الحصون من دواخلها بفعل ابنائها .. ان دواخل بعض مجتمعاتنا قد اصابها التعفّن منذ قرابة ثلاثين سنة مضت نتيجة القصور ، والهشاشة ، والضعف ، والسذاجة ، واحتقار العقل ، وهجمة الغلو والتطرف ، كما ان الثقافة الحقيقية غدت مغيبّة ومستهجنة ، وتلاعبت العواطف دوما بأهواء مجتمعاتنا ، وطغت عليها مخيالاتها وشعاراتها الواهية ، كما وتحكمت السرعة في قرارات السلطات فيها ، ولم يعترف الانسان باخطائه وهزائمه ابدا .. لم ينفتح على الاخر ، وغدا يعبث بالخصوصيات ، ولا يؤمن بالنفع العام ولا المال العام .. ليس بقارئ ولا بمدقق .. عدو للحداثة ، عاشق للتعصب ، مزاول للتطرف ، لا يحب العمل الجماعي .. يؤمن بالعشائرية والطائفية والجهوية والمحلية .. يردد الشعارات من دون تفكير مسبق بها .. لا يصحح مفاهيمه القديمة .. يحمل تناقضاته الى اي مكان يذهب اليه .. لقد انهار عالمنا مع زيادة النكسات والهزائم العسكرية والنفسية والفكرية والاخلاقية .. وشهدنا مأساة حروبنا الباردة والساخنة بين سياسات الدول .. كنت اتمنى لو سار العرب في طريق آخر غير الطريق التي سلكوها منذ خمسين سنة ، لكانوا اليوم بكل قدراتهم ومواهبهم وامكاناتهم يحسب لهم حسابهم ، ولكن عشنا حالات التراخي ، وضياع الازمنة الثمينة في الهوس ، وترديد الشعارات الماكرة .. لم يعد الضبط والربط موجودا في دول عدة ، بل واندلعت حروب لا معنى لها قتلت زهرة شبابنا ، وازهقت ارواحا بريئة ، وبددت ثرواتنا هباء .. لم نجدد انفسنا مع توالي الايام والازمان .. لم تجد مجتمعاتنا فسحة من التغيير من اجل بناء وعي جديد بالزمن والتقدم .. هيمنت على العقول وكبست على الاذهان تلك الاوهام السياسية العمياء . وعّم الاضطهاد والاستبداد ، فلا اية مساحة للرأي الاخر ، بل ولا حتى هامش صغير للحريات .. ساد القمع والكبت في كل مكان .. كل هذه وتلك جعلت مجتمعاتنا تتفكك ، ونخبها تهاجر ، واجيالها تنغلق ، وشارعها يصمت .. فمتى تتغير بوصلتنا نحو المستقبل ؟ انها تتغير بولادة انسان جديد ووعي جديد وعلاقة انتاج جديد وابداع من نوع جديد ..
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 10 سبتمبر 2008
Check Also
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …