هذه مقاطع اولى من رسالة سياسية مطولة كتبها الاستاذ علي الجميل بخط يده في شهر ديسمبر / كانون الاول من نهاية العام 1909 عندما وزعّها سرا على كل الطلبة والزوار العرب في استانبول ، وقد نشرها بعد سنوات .. لقد وجهها الى زعماء الاتحاد والترقي الذين لم يفوا بعهودهم التي قطعوها للعرب ، وكان علي الجميل يدرس في الكلية الشاهانية بالاستانة ، وشارك رفقة اصدقائه وزملائه في الحركة العربية ، وخصوصا في تأسيس المنتدى الادبي ، وكان احد اعضائه ونشطائه . وفي مجلة المنتدى الادبي ، نشر بعض اعماله على صفحاتها .. لقد كتب هذه ” الرسالة ” قبل اكثر من ثلاث سنوات على المؤتمر العربي الاول بباريس عام 1913 ، وقد لوحق علي الجميل وطورد جراء مواقفه السياسية العربية .. وخصوصا بعد رجوعه الى العراق .
هنا ننشر هذا الجزء الذي عثر عليه من رسالته التي اسماها بـ ” على رسلكم يا زعماء الاتحاد ” . ونضعها بيد الباحثين :
على رسلكم يا زعماء الاتحاد
علي الجميل
لكل شيء زوال، ولكل أجل كتاب، ولكل شارقة مغيب ، والليل لا بد أن ينجلي ظلامه والستار لا بد أن تخترقه الأبصار ولو بعد حين . (من غشنا ليس منا ) حديث نبوي كريم ، والكلام النبوي منبع الحكمة ، فما لمدعي الحكمة من رجال الأمة عن مثل هذا غافلون أو متغافلون .
يا زعماء الاتحاد ، وأبطال الحرية ، وخطرآء الأمة رفقاً بهذه الأمة التي باتت عائمة في تيار الجهل وأنتم والله لها مغرقون . أردتم أن تلعبوا بالأمة ، فأخذتم الدين لكم أحسن ستار تسدلونه على ما تصنعونه من المكائد والخدع لهذه الأمة المسكينة ، وما هي إلا أيام حتى كشفت يد الحقيقة عن ذاك الستار فما وراؤه إلا ملاعب ابتدعها المشاغبون قد طليت بسفسطات لينخدع بها قوم ، هم عن الحقيقة ساهون.
يا أحرار القوم ، ويا ولاة الأمر عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم، أصلحوا أنفسكم من قبل أن تبحثوا عن سبل تصلحون بها غيركم إن أصلحتم ، فالكل يصطلحون ، وأن عممتم في غيكم ، فالكل في غيهم يعمهون، ولئن فسدت أخلاق الأمة ، فأخلاقكم أشد فساداً ، وأنتم أكثر إنفاقاً ، وما فساد الأمة إلا منكم ، فأنتم الأولون ، وأنتم الآخرون والناس على دين ملوكهم ، كلام مأثور .
للدين رب يحميه ، والدين أجل أن تتخذوه أحبولة لمآربكم وأهوائكم وما رب الدين بغافل عما تعملون. رثت أحبولة الدين فأخذتم تضربون على أوتار الوطن بنغمات العدل والحرية والمساواة ، وما هي إلا سويعات من ليلة اختلط فيها الحابل بالنابل ، فتبدلت الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات ثم تقطعت أوصال تلك الأوتار وانجلى النهار ، وإذا بكم ولعرش الخلافة وتأييده تدعون .
رويدكم ، كفى هذا التضليل ، وكفت تلك الأباطيل ، وما عبد الحميد أقل منكم خداعاً وأقصر باعاً باختراع التمويهات ولئن انخدعت الأمة بتمويهاته ، برهة من الزمن ، فمحال أن تنخدع بتمويهاتكم اليوم . وإنها لعمري ستحاسبكم في الغد على النقير والقطير ، وأن الغد لناظره لقريب . هذا وعد وإن الوعد ما يستدل به على الوعيد .
لعبت بأدمغتكم خمرة الغرور ، فشهرتم سيوفكم في وجوه أسيادكم بالأمس . توهمون الأمة أنكم تجاهدون في سبيل حريتها ، وتمتعها بحقوقها ، وما ذاك إلا جهاد في سبيل المناصب الرفيعة ، والرتب العالية ، والتنعم بالرواتب التي تتسرب إلى جيوبكم من دماء الأمة والسيطرة على الضعفاء .
ويحكم إن الذين ولدتم تحت لوائهم ، ورضعتم ثدي نعيمهم ، وترعرعتم في أكنافهم ، يعرفونكم خير من أبائكم الذين أنتم من أصلابهم ، ولو تحققوا صدقكم ، وإخلاصكم ، لوضعوا ثقتهم فيكم قبل أن نضعها نحن بكم ، أولئك قوم درسوا كنه أخلاقكم فعرفوا منكم ما لم نكن لنعرفه ، وأنزلوكم منزلتكم التي أصبحتم عليهم من أجلها ناقمين .
لا لوم عليهم ، يغفر الله لهم ولعبد الحميد فقد كانوا العالمين وكنا الجاهلين وما عاقبة الجهل إلا ما نحن فيه ثم إليه منقلبون .
لئن أحبتكم جهلاء الأمة اليوم ، فلا أظنها تحبكم غداً ، فسحب الجهل لا بد وأن تنكشف ، والحقيقة لا بد أن تنجلي ، ولو بعد حين ، ومن لعب بالدهر سويعة فلا بد أن يلعب به الدهر كثيراً من السنين .
أشبهتم الشعراء فأصبحتم في كل واد تهيمون ، وتقولون ما لا تفعلون ، ثم حاكيتم خاطب الظلماء ومراكب الشعراء ولا تدرون إلى أين أنتم سائرون ولا إلى أين نحن صائرون .
رويدكم نحن أسلام قبل أن تخلقوا ، ووطنيون قبل أن تعرفوا الوطنية ، ولكم الراية البيضاء على ما درسناه منكم من المساوئ التي لولاها لما أصبحنا على ما فيه من معرفة الحقائق ، وكم بيننا من شيخ مجرب أكل الدهر عليه وشرب ينظر إلى الأمور نظر نبي يتجلى له ما لا يتجلى لغيره فيرى كل شيء ويعلم كل شيء فلا يخضع لكل شيء ولا ينخدع بكل شيء . أجل نحن إسلام فلا نحب الغش ، وعقلاء فلا ننخدع بالتمويهات والأباطيل ، وطلاب حقائق فلا نطمع بالألقاب والرتب والرواتب ، وممرضوا أمة قد أشرفت على الهلاك ، فلا نريد أن تمتص دمائها لنقضي عليها وهي في عالم اليرقان .
يا زعماء الأمة رفقاً بالأمة ، سيسألكم خالق الأمة عما تكيدون به الأمة ، بوركت لكم المناصب ثم هنيئاً لكم الرتب والرواتب لا نريد منازعتكم أياها ، ولكن سيلعنكم التاريخ غداً إن لم يلعنكم اليوم وسحقاً للقوم الظالمين ، ويلكم تريدون أن تخدعوا الأمة ، فتارة تنادون الدين الدين ، وأخرى الإصلاح الإصلاح ، ومحبوا الجاه ، وعشاق المناصب يصفقون من ورائكم ولا يعلمون إلى أين أنتم سائرون وإلى أين نحن صائرون .
أولئك قوم طبعوا على النفاق ، وإن المنافقين في الدرك الأسفل من النار – والعياذ بالله – يلهجون بما تلهجون به ، ويحبذون ما تحبذونه يهدونكم الألقاب الضخمة والأوصاف الفخمة ثم يزفون لكم الإخلاص ويعاهدونكم على الحب والولاء ، إن كفرتم كفروا ، وإن آمنتم آمنوا فمثلهم كقوله تعالى – وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن –
فتظنون أنهم جندكم الأكبر ، وعونكم في السراء والضراء . وهل جهل أكبر من هذا الجهل العظيم ؟ ويحكم إنما هم عشاق للمناصب الخطيرة مثلكم ، واوراء الدنيا والدراهم يريدون التمويه عليكم كتمويهاتكم على الأمة لأجل مشاطرتكم فيما تجمعون من أيدي الضعفاء والمساكين . رويدكم ضاعت عليكم الطرق تريدون إرضاء الأمة لا حباً بالأمة ، بل حباً بالمناصب والرتب والألقاب والرواتب . وكم بين رجال الأمة من يفقه ما ترمون إليه ويعلم ما تكنه قلوبكم وأنتم عنه جاهلون أو متجاهلون .
كم تحت الظلام من مظلوم غصبت حقوقه واحتقرت منزلته فلا تسمع له شكوى ولا تدفع عنه بلوى كأنه بفرد من أفراد هذه الأمة التي تتظاهرون بمناصرته وتجتهدون لإيصال معروفيتكم إلى عروقها لتمتصوا دمائها من حيث لا تشعر ؟ كم بين هذه الجدران من مسكينة يفيض دم قلبها من جفونها طول ليلها مما قد انزلتموه عليها من الذل والهوان ؟؟ إنتهكتم شرفها واستبحتم عرضها ، ثم أمطرتم عليها أنواع العذاب ، فإذا هي من الساقطات وإذا بكم وأنتم لها وائدون .
ويحكم سيسجل لكم التاريخ هذه الأعمال وسيعود عليكم الوبال وما بعد الحق إلا الضلال فهل أنتم منتهون .
وزعها سرا في كانون الأول / ديسمبر 1328 هجرية / 1909م
ونشرها باسمه نهاية عام 1911 م