لم اكن اصدّق قبل سنين ما كتبه مايلز كوبلاند في ” لعبة الامم ” ، ولم اكن اّصدق أيضا ان السياسة ” لعبة قذرة ” ، ولم اكن اصّدق كذلك ان الشرق الاوسط: مزاد يباع فيه كل شيئ ويشترى منه اي شيئ .. كل ذلك وغيره كثير تعلمته من الغاطس في التاريخ ، وادركته من المخفي لما وراء سطور الوثائق ، وخلصت اليه من فهم ما الذي يجنيه الاقوياء وما الذي يخسره الضعفاء ! نشرت قبل ايام مقالا ، وقبل اتفاق اللبنانيين في الدوحة ، قرأت فيه ارتباط كل احداث الشرق الاوسط بعضها بالبعض الاخر، وما يكسبه طرف سيخسره طرف آخر .. والخيوط متعددة ولكنها متشابكة تتجمع في يد واحدة ، هي التي تحرّك كل المقامرة ، وهي التي تجلس في غرفة السيطرة تراقب كل اللعبة، لا يهمها الا ما تجنيه هي في نهاية المطاف، ولا مبادئ ثابتة تحكمها ، فربما كانت متغيراتها تتبدّل كل يوم!
دوما اقول لاصدقائي : اذا ما اختلفتم في تقييم حدث او واقعة معاصرة في الشرق الاوسط ، ونحن من ابنائه ، فابحثوا عن اصحاب المصلحة الحقيقية الذين يترصدون ويظهرون او يغطسون ويختفون ، وفي النهاية يكسبون .. واذا ما عالجتم اوضاع لبنان ـ مثلا ـ ، فلا تنسوا انها مترابطة مع احداث تجري في العراق ، او اخرى في فلسطين او تلك التي في ايران .. ومن يتشبث برأيه وايديولوجيته فهو الخاسر ، لا يفهم سياسة ولا يجيد اللعب فيها ، سواء على مستوى افراد ام احزاب ام دول.. كما اريد القول بأن مصائبنا نحن العرب ، اننا لا نعرف قواعد اللعبة ونخوض في غمار سياسات اقليمية ودولية .. ومن يبقى على مبدأ ( يعيش ويسقط ) او على شعارات الماضي ، واتباع التخوين والعمالة والتكفير.. فهو لا يدرك ان السياسة مصالح ولا علاقة لها لا بالاخوة ولا بالصداقة. وقد علمنا التاريخ ان التحالفات هي شراكة مصالح اولا واخيرا ! واذا ما علمنا ان السياسات هي مجموعة صفقات ومصالح تدار عبر اقنية خفية.. وان اللاعب الحقيقي هو فنان الممكن الصعب، ادركنا قذارة التاريخ السياسي بين الامم ، وخصوصا الكبيرة في تسيير دفة حركة الصغيرة .
انظروا الى الشرق الاوسط والى اللاعبين عليه ، فلا يختلف اثنان سواء كانا زعيمَين ام مواطنَين ان مقاديره السياسية غدت امريكية ، وانه كان ولم يزل في رعاية امريكية ، وان كل احداثه تتحرك في سلة امريكية، حتى ذاك الذي وصف امريكا بـ ” الشيطان الاكبر ” فلقد كان جزءا من صفقة ” ايران غيت ” ! بل ان الذي اشعل حرب 1973 ضد اسرائيل ، وقّع معاهدة امريكية معها في كامب ديفيد عام 1979 ! وان من اراد ان يحّل شرطيا للخليج بعد الشاه جعلته امريكا ينزف ثماني سنوات عجاف في حرب اسموها عن عمد وسبق اصرار بـ ” الحرب المنسية ” ! وان اضواء خضراء خافتة توزع الادوار في غزو هذا والانسحاب من هناك ! قولوا ما تشاؤون بوصفها ” فكرة مؤامرة ” والبسوها ما شئتم ، ولكن من السذاجة والغباء ان تتخيل نفسك وحيدا في الميدان ، وميدانك مجال حيوي استراتيجي لا يمكنك السيطرة عليه ازاء من هو اقوى منك !
ربما فرح الفرقاء في لبنان انهم وقعوا اتفاقا ، ولكن علينا ادراك حركة الاحداث، ومن هو الاقوى لبنانيا اليوم ؟ من فرض ارادته ضمن الثلث المعطّل وعدم نزع سلاحه ؟ وبمن يرتبط ؟ وما الدولة الاقليمية الوحيدة التي فاوضها الامريكيون ؟ اين تجدون مصالح امريكا الحقيقية ؟ في العراق ام لبنان ؟ ما سّر بدء المفاوضات السورية ـ الاسرائيلية وبرعاية تركية هذه المرة ؟ لماذا فشل العّراب الذي يقود الجامعة العربية لأشهر طوال بايجاد أي حل على ارض لبنان .. وفجأة يأتي الحل من بعيد ؟ ما علاقة الاحداث في العراق بكل الصفقة التي تجري في عدة دول شرق اوسطية ؟ ما الذي ساومت عليه ايران ضمن هذه اللعبة ، وهي التي كانت ولم تزل تلعب الكرة لوحدها بحرية على الساحة ازاء آخرين ظهروا مقيديّن ومصفدين بالاغلال !
لقد بدا لي تماما ان خمسين سنة مضت بكل احداث المنطقة ، وانهار دماء ابنائها ، وحروبها الباردة والوهمية والكارثية ، وانقلاباتها العسكرية ، وجيوب احزابها وجماعاتها وانعقاد مؤتمراتها ،وصفقات العديد من زعمائها ، وقتل بعضهم .. كلها تصبّ في سلة امريكية واحدة ومنذ ايام الحرب الباردة، وانتقالا الى عهد الوفاق ، ووصولا الى ارادة القطب الواحد . وكنت اعتب على الزعماء قراءتهم كتاب ” الامير ” لميكافيللي ، ولكن اذا كانت تجربة الاخير محكية قبل خمسة قرون ، فكيف بنا اليوم ونحن نعيش في عالم تتفاقم فيه المصالح والشركات بشكل لا يصدّق ؟
هنا اقول ، ان السياسة ليست هي دوما فن الممكن الصعب ، ولكنها في ( دولنا ) فن اجادة اللعب مع الكبار ، والمناورة واداء الادوار سواء كان صاحبها يظهر بنياشينه وصولجاناته العسكرية ، او يبدو بعمامته الدينية ، او ببدلته ، او بعباءته ، او قلنسوته ، او سرواله وزنّاره .. المهم ، هل لك القدرة على ان تحافظ على مصالح بلدك العليا وخدمات شعبك الدنيا ، وانت على قاربك في بحر متلاطم الامواج وتواجه اكبر حوت في الوجود ؟؟
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 28 مايو 2008
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …