الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / قصة التحّول التاريخي.. من عالم بريطانيا القديم الى عالم امريكا الجديد*

قصة التحّول التاريخي.. من عالم بريطانيا القديم الى عالم امريكا الجديد*

التغاير البريطاني والتكوين الامريكي
صدر مؤخرا كتاب ضخم للمؤرخة كاثرين بيرك بعنوان : ” العالم القديم ، العالم الجديد : قصة بريطانيا وامريكا ” ، وصاحبته استاذة التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة لندن .. ان التحول التاريخي من القديم الى الجديد كان مذهلا ! لقد احتكرت بريطانيا القرن التاسع عشر وهيمن الامريكيون على القرن العشرين .. يعد عام 1857 ، علامة فاصلة عندما هيمنت بريطانيا على العالم مع استمرار العهد الفيكتوري في حين كان التكوين الامريكي يجري سريعا على تلك الارض البكر من مستوطنة جيمس تاون على امتداد 400 سنة حتى حرب الاستقلال . لقد تمرد المستعمرون الامريكيون الجدد على مصادرهم الاولى ، هنا حدث التغاير بين الاباء والابناء نظير ما كان يتمتع به ايا كانت مقاصد اولئك “الرجال الانجليز” أنفسهم ، اذ كانوا يتمتعون “بجميع الحريات والحصانات ويبسطون هيمنتهم على كل الارض البكر .. انه تمرد عائلي في التاريخ من اجل بناء تحولات جديدة .
لقد كانت شرارة حرب الاستقلال الامريكية في ليكسنغتن .. ودوت الصرخة عام 1774 من اجل انفصال العالم ، اما الثورة الفرنسية فانطلقت عام 1789 ، ولكن بالتحول في الزمن الاوربي ، ومثلما حدد مؤتمر فيينا عام 1815 عهدا للوفاق الاوربي ، صيغ وضع الوئام البريطاني الامريكي بين العالمين . ان النصف الثاني من القرن التاسع عشر هو زهرة العظمة البريطانية وقوتها الاستعمارية ، ويتمثله العهد الفكتوري الذي يهتز اهتزازا شديدا في الحرب العالمية الاولى .. ليبدأ تحوّل تاريخي من نوع جديد.

قصة التحول .. مريرة ومعقدّة
ان قصة التحول بين عالمين ، قصة معقدة ومريرة ، ولكنها ممتعة وأخاذة كتبت بهدوء شديد ، وهي تربط التكوين المشترك الاول بمقولة ونستون تشرشل المتفائلة والتي يسمي العلاقة فيها بـ “العلاقة الخاصة” بين العالمين ، ولم تنأى القصة الرائعة باسلوبها ومادتها وموضوعيتها والوانها وعناصرها عن وصف للاعمال العدائيه ، والخيانات ، والاذلال والاستياء والتناقضات والازدواجيات العنيفه .. وسيخلص من يقرأ الكتاب بأن التحول كان يرافقه ازدواجية الحب والكراهية في التاريخ الحديث .
ان المؤلفة مزدوجة الولاء بين امريكا وبريطانيا .. محددة اسلوبها في التفكير ، ونظرتها المحايدة لمسائل الحق والباطل ،ومقارنتها ووصفها المثير والمتسع للانطقة العسكرية والاقتصادية والسياسية على امتداد القرنين السابقين .. وقد تابعت تطور السلطة بشتى صنوفها ، ولكنني اخالفها في بعض مواقفها حول طبيعة الهيمنة الاستعمارية .. صحيح انها تعمل مع مصالح بلدها ، ولكن التاريخ لا يقبل منها اية انحيازات .
تبدو انها ثنائية في احكامها للبريطانيين مرة وللامريكيين اخرى .. انها تتعامل بتعقل مع النص ومن دون اية عواطف ، وانها قد تأثرت بمقولات الساسة الانكليز القدماء ومنهم الدبلوماسي اللورد كلادوين gladwyn الذي يعتقد ان الخوف مدعاة اساسية للاتحاد والتماسك السياسي الامريكي . ان ما دعا امريكا الى ان تتحد منذ تاريخ طويل هو الخوف على مصالحها الخاصة فارست قانونا متجذرا ، وان الامريكيين لا يعرفون من خلال رؤيتهم للتاريخ والزمن والعالم الا اين تكمن مصالحهم القومية .. وهذا ما يتضح من قراءة تاريخهم بدءا باستكشاف جغرافيتهم وامتدادا الى مشروعهم المشترك في العراق ـ على حد تعبير كاترين بيرك ـ .

تكوين عالم جديد
ومثلما انطلقت “المملكه المتحدة” في التاريخ الحديث ، تبلور عنوان “الولايات المتحدة الامريكية” برغم كل الاحتجاجات وردود الفعل والانكسارات لمجتمع كان يزداد تنوعا مع توالي الاجيال .. وكيف تنصهر موجات الالمان والايرلنديين والايطاليين والبولنديين والروس والاسيويين وغيرهم من المهاجرين الذين قدموا نحو عالم جديد يتكون بسرعة ولأول مرة في التاريخ . كان أول المستوطنين من الانكليز في الارض البكر .. ولم يعرف التوحد في الاصول لأول مرة ، ولكن حدث الاجماع في الاهداف والمعتقدات. وتبلورت اول مستعمرة ناجحة انكليزيه ، في جيمس تاون ، وكانت تجارية بالمقام الأول ، ثم تبلورت الثانية في بليموث كمركز ديني يجمع العديد من بعثة الآباء ، في حين تأسست الثالثة في بوسطن 1630 وغدت الافضل لارتباطها بخليج ماساشوستس ، ثم انتقل الامتداد نحو بنسلفانيا التي جمعت الحرية الدينية والكفاءه التجارية ؛ وقامت نيويورك بتكوين من المستوطنين الهولنديين ؛ ثم ميريلاند لتتخصص بالتحول الىالكاثوليكيه .
امتازت المؤلفة بقدرة التمايز بين الايديولوجيات ، ومعرفة تباين فصائل وجماعات كلها تتكون من اجل المصالح ، فضلا عن درايتها بنشأة الخرائط الاقليمية ذات الاصول ، والطبقات ، والمعتقدات ، واسس الخلفيات العرقيه المختلفة في امريكا عن طريق المستعمرين ايام عهودهم الاولى وصولا الى الحرب الاهليه الامريكية ، ناهيكم عن انقسامات داخلية من انواع كثيرة ما زالت قائمة اليوم ، وحتى على اعلى المستويات (على سبيل المثال لا الحصر : البيت الابيض ، وزارة الخارجية والبنتاغون) ؛ وفي الواقع ، بالامكان ملاحظة اعادة انتاج الامريكان تاريخهم في نتائج التكوين المعاصر وبصورة دامية واكثر وضوحا في سلوك رحلتهم الى العراق ..

بريطانيا .. ينبوع القوى العظمى
وهذا ما عبرّت عنه المؤلفة بنفسها ! وقالت انها تقتبس نص السير نيكولاس هندرسون ، سفير بريطانيا في الولايات المتحدة ابان الفترة 1979- 1982 ، اذ لاحظ ان : “طبيعه الحكومة الاميركية يجعل من الصعب جدا الحصول على واحدة فقط من قرارات واضحة وشاملة للسياسة التي تمتد الى الينبوع (= الاصل ) ” – وكان هنري كيسنجر قد أشار لذلك مرارا ، ووصف دبلوماسيا بريطانيا ذلك ” بوسيلة للابقاء على حالة القوى العظمى .. لقد كان ذلك جزءا لا يتجزأ من عملية صنع القرار الامريكى ، وان فكرة عدم التشاور معهم فيما يبدو انتهاكا للامور”. من هنا ندرك كم هو حجم اسرار الولايات المتحدة الامريكية ، وكم سياستها كانت ولم تزل مغلقة وقد اختطتها منذ تكوينها الاول .. ولا يمكن لأي مخلوق ان يدري ما الذي تنوي عليه وما الذي تريده وما الذي تخطط له وما الذي تراه وتخطط له للمستقبل !

ان ثمة متعة في معرفة التحول من العالم القديم الى الجديد واستمراره حتى القرن العشرين مع انتقال قوة بريطانيا الى امريكا ، لتصبح المملكة العجوز حليفا استنفذ ما كان متوقعا ابان الحرب الباردة وساءت العلاقات ايام فيتنام عندما رفضت حتى ارسال قوة رمزية .. علما بأن ثمة كراهية عن بعد تلمسها لدى اي جانب ازاء الاخر .. ولقد وقفت امريكا الى جانب بريطانيا في حرب جزر الفوكلاند على عهد صداقة تاتشر ـ ريغان ، واستمرت الصداقة لتنضج الى تحالف بلير ـ بوش اثر 11 سبتمبر 2001 . فماذا عن المستقبل ؟
وأخيرا : ماذا اقول عن المؤرخة بيرك ؟
تقول المؤرخة كاثرين كيرك عن نفسها بأنها متخصصة القرن العشرين ، وحقلها الخاص يتمثل بالبحث في العلاقات الانكلو امريكية والتي نشرت عنها ثلاثة كتب وبعض المقالات .. فضلا عن دراستها لتاريخ البنوك التجارية والتي نشرت ثلاثة كتب اخرى في التاريخ الدولي العام والتي شملت مساحة زمنية بدأتها منذ العام 1497 حتى اليوم . وتعمل اليوم على بحث مشروع مارشال من وجهة النظر الاوربية .. ومن خلال معرفتي بهذه المؤرخة ، فلقد وجدتها لا تكّف ابدا عن القراءة والكتابة وهي تفكّر اليوم بالكتابة عن النبيذ وتاريخه .. انها تمتلك رؤية من نوع خاص للتاريخ تحدده المعلومة والبقاء في اطارها ، وهي تستلهم من تجارب التاريخ الدولي بعض المعاني الحقيقية التي تنفع كثيرا الرؤساء والملوك واصحاب صنع القرارات في هذا العالم . ان المؤرخة كاثرين بيرك تعتني كثيرا بالتواريخ الاقتصادية وترى ان العالم كله تسّيرة المصالح الدولية الكبرى .. ولكنها لا ترى الا نادرا ما تدفعه المجتمعات والشعوب من الاثمان جراء تلك المصالح على امتداد التاريخ الحديث .. ان المشكلة ليس فيها ولا عند كل المفترسين ، ولكنها تكمن عند كل الذين ما زالوا يؤمنون بالخرافات والاوهام والشعارات في رؤيتهم لهذا العالم الذي يكثر فيه الماردون والاقوياء الذين يزداد توحشهم يوما بعد آخر .


* قراءة في كتاب كاثلين بيرك ، العالم القديم ، العالم الجديد : قصة بريطانيا وامريكا


Old World, New World: The Story of Britain and America
by Kathleen Burk
830pp, Little, Brown, 2007-2008.


www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …