أسئلة ينبغي توجيهها إلى مجتمعاتنا في هذا الزمن الصعب عن ظاهرة صمت الشارع السياسي وسكونه، والتي تبلورت منذ أواخر القرن العشرين.. أسئلة تداولتها مع أحد الأصدقاء قبل أيام عن سّر هذا الصمت المريع الذي بات يطبق على الناس: هل هي مشكلة جيل جديد لم يعد يهتم بالقضايا المصيرية في حياتنا السياسية؟ أم أنها ظاهرة عالمية أخذت تطغى في كل المجتمعات البشرية؟.
هل هو تحول في المفاهيم والأفكار بين أجيال الماضي وبين أجيال القرن الجديد؟ هل اقتنعت المجتمعات بأن الصمت هو الملاذ الأخير الذي يمكن الالتجاء إليه، وأن لا دور هناك أبدا لردود الفعل والنقد والاعتراض والرفض والمجابهة السلمية؟ ولكن.. لماذا يرفض البعض مثل هذا الصمت وهذا السكون؟ لماذا يعتبرونه شللا أصاب حياتنا، ومهادنة صريحة غير بريئة لواقع من المهترءات؟
لماذا يطالب أبناء النخب بمشروع دراسة هذه «الظاهرة» المثيرة التي أصابت الجماهير في الصميم؟ هل غدا الصمت نتاج العجز القاتل الذي أصاب تكوينات حياتنا في الصميم؟ إنها ظاهرة تجتاح كل عالمنا البشري ولا يمكن إن تكون من نصيب مجتمعاتنا فقط؟.
إن الصمت والسكون علامة الرضا والقبول ـ كما يقولون ـ وهما نقيض الرفض والثورة، ولا يمكن أن تحدث اليوم متغيرات مفجعة، وتصدر قرارات طائشة، وتصيب خروقات كبيرة، وترتكب جنايات قاتلة، بحق الإنسانية وبحق عدة مجتمعات ودول، ويبقى الشارع السياسي صامتا لا تهزه كل الأحداث، ولا تحرك مشاعره كل الوقائع. إن الصمت سيوّلد الكبت، وهذا الأخير سينتج الانفجار يوما.
إن ظاهرة الصمت لا يمكن حصرها في مكان واحد، إذ انني أراها تجتاح كل مجتمعات العالم، وبالذات عالم الجنوب الذي بات تمزقه الأهواء والسياسات البليدة وفرص العيش الصعبة. وعليه، فالمطلوب اليوم مشروع دراسة لهذه «الظاهرة» المثيرة للجدل والاستغراب، مشروع لا يقتصر على خفايا غرف النخب المغلقة ومستورات الندوات العقيمة المقفلة، بل انه بحاجة إلى معالجات تطرح على العلن وفي وسائل الإعلام المرئية، وان تكون هذه «الظاهرة» هي الشغل الشاغل لكل المثقفين والمختصين والإعلاميين والأكاديميين.
لقد كان الشارع السياسي عند منتصف القرن العشرين يغلي كالمرجل اثر أية أحداث تاريخية وأية مواقف سياسية أو تدخلات خارجية، بل وكانت الناس تعبر تعبيرا حقيقيا بخطاب سياسي أو شعار جماهيري عن رأيها بردود فعل سلمية مؤيدة أو معارضة لما كان يحدث.. بل وتمتد أساليب التظاهر من بلد إلى آخر ومن عاصمة إلى أخرى ومن جامعة إلى جامعة لتجتاح دول منطقة كاملة، وسواء تدخلت السلطات أم لم تتدخل، فالعالم كله يعرف بأن ردود فعل قد حدثت، وان اعتراضات قد وقعت، وان موافقات قد حصلت..
وان مفاوضات قد عقدت، وان تنازلات قد جرت. إن الحركة ورد الفعل لا يمكن أن يكونا مجرد أبواق ناعقة ولا أساليب قوى معارضة، إنها حالة معبرّة عن طبيعة مجتمع (أو أكثر) يسهم في الحياة السياسية، وتتحدد من خلال ردود الفعل إرادته الشعبية أو النخبوية أو العامة. وإذا كان البعض يبارك الصمت والسكون سواء كان من ذوي السلطان أم من ذوي المصالح والغايات الخاصة..
فهو جاهل لا يدرك قيمة أية تعبيرات وجدانية ولا يثمّن أية مشاعر جماهيرية، ليس من باب الإثارة، بل من باب المشاركة ومعرفة قدرة الرأي العام في فهم الأحداث وعناصرها، والتمكن من قياس تجلياتها مقارنة بإخفاقاتها، ناهيكم عن مساعدة الزعماء وصناع القرار في مواجهة العالم.
تموج منطقتنا الساخنة من هذا العالم اليوم بأحداث قوية ومصيرية ومنها ما سيحدد طبيعة حياة أجيالنا القادمة، ومنها ما يتّصل بوجودنا وعيشنا وواقعنا المرير، وما يهدد أمننا واستقرار بلداننا وحياة بيئاتنا.. من دون أي ردود فعل إزاء ما يحدث! إن العالم كله يشهد اليوم كم هو حجم الإرهاب، وكم هو حجم الاحتلالات، وكم هو حجم الاستبداد، وكم هو حجم الدكتاتوريات؟ كم هو حجم الاختراقات بين الدول؟
كم هو بؤس القرارات؟ كم هي الأخطاء والجنايات؟ كم هي البلايا والإخفاقات؟ كم هي مساحة الحرمان في الحياة؟ كم هو حجم القسوة والتعاسة والمعاناة في العالم؟، وخصوصا في منطقتنا التي منيت بالانتكاسات والتمزقات، والكل ساكت وكأنه رضي بأن يقفل نفسه على كل المستورات.
إنني أقول ان السياسة قد خرجت من كل حياتنا اليوم ولم يتبق إلا هزال من يعيش على أكتافها لتوصله إلى مصالحه الشخصية، وتكاد تغيب يوما بعد آخر النزعات الوطنية بانتقال التفسخ من مكان إلى آخر، لقد ضعفت الأحزاب السياسية ضعفا كبيرا بسبب جعلها مجرد منتديات للتكسب ومجرد تحول بعضها إلى مافيات وعصابات وجماعات، لم يعد هناك من يؤمن بالمصالح العليا بل اخذ الجميع يصفق للانقسامات، وبدأت مجتمعاتنا بالتفكك بركام من الانتماءات.
لقد ساهم الإعلام المرئي المعاصر خلال هذين العقدين الأخيرين بدور خطير، إذ انه سحب البساط من تحت أرجل الشارع السياسي، وتفوقت الإعلاميات المرئية خصوصا وطغت كثيرا على المرافق السياسية، ولكن الأجهزة الإعلامية والفضائيات لا يمكنها أن تكون بديلا عن الحياة السياسية، بل انها معبرة عنها فقط.
إن للرأي العام دوره الرائع في معرفة كيفية تطبيق القرارات، فضلا عن معرفة السلطات للحاجات والضرورات، إن الصمت السياسي داء خطير لا يمكنه أن يبقى ويلازم مجتمعاتنا كلها، إن حياتنا ومستقبلنا مهددان في دواخلهما ما لم تتشكل إرادة جماهيرية في كل بلد من بلداننا تعبر عن مصالح عليا ولا تعّبر عن مصالح فئوية أو حزبية أو جماعاتية ضيقة.
www.sayyaraljmail.com
البيان الاماراتية ، 26 مارس / آذار 2008
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …