ان حصول هذا الشاب القيادي الروسي ، احمر الشعر ، على نسبة تتجاوز السبعين في المائة من اصوات الناخبين في الانتخابات الروسية الرئاسية .. له عدة معان وتأويلات ، لعل من ابرزها ضمور الشيوعية في روسيا بعد ان كانت احدى ابرز قلاعها على امتداد القرن العشرين في العالم .. خصوصا وان نسبة المشاركة في الانتخابات الاخيرة على الرئاسة بلغت السبعين في المائة .. مما يدّل على ان الشيوعية العالمية لم يعد لها أي رصيد في المستقبل لا المنظور ولا البعيد ، وخصوصا لدى الاجيال الجديدة .. وفي كل المجتمعات التي تضم حركات سياسية حيوية ، قوامها الشباب الذي لم يعد من مهامه ، تطبيق الافكار والشعارات الرنانة والطنانة التي كان يخدع بها الجماهير ليل نهار ! وكانت تلك مشكلة جيل كامل .
ولقد اصبح من المؤكد الان ان التغيير الذي حدث في روسيا الاتحادية كان ضمن سيناريو تنظيمي داخلي ، ولقد نجح الرئيس بوتين في تنفيذه باختياره ديمتري مدفيديف الذي ـ كما يبدو ـ له قوته والتزامه ، ولكن له نقطة ضعف وحيدة ، وجدها بوتين ملائمة لكي يكمل سيرورته .. ان نقطة ضعف مدفيديف هي خروجه من عباءة بوتين والبقاء في ظله .. وان المعلومات المتوفرة حتى الان تقول بأن شخصية هذا القادم الجديد لم تزل واقعة تحت تأثير بوتين . وان الاخير مطمئن ليس لأن خلفه سيسير على نهجه ، بل لأنه سيحكم من وراء حجاب !
ولد ديمتري مدفيديف في 14 سبتمبر 1965 في العاصمة القديمة سانت بترسبورغ ( لينينغراد على العهد الشيوعي ) ، كان أبوه مهندسا ، وامه مدّرسة لغات وقانون ، وانجز دراسته العليا عام 1990 ، وبقي استاذا للقانون في الجامعة لمدة تسع سنوات ، وخلالها عمل مساعدا لرئيس مجلس بطرسبورغ ، والمحلل في لجنة العلاقات الخارجية لها ، ونحن نعلم ان مدينته قد غدت بؤرة للثقافة الليبرالية السياسية ! المهم ، انه تدرّج ليغدو رئيس مجلس الادارة الرأسية ، وهو متزوج وله ابن واحد . ويعتقد العديد من المراقبين ان قوة العلاقة بين الرئيسين القديم والجديد ستقود روسيا من وراء الكواليس .
ولكن ؟ لا يمكننا تقييم هذا القائد الجديد ما لم يزاول حكمه حتى الان كي يكتشفه العالم ، ولكننا نتساءل عن قدرته في اللعبة السياسية ؟ وعن دوره في صنع القرار ؟ وعن طبيعة علاقته بالولايات المتحدة ؟ والاهم من كل هذا وذاك مواقفه من ازمات الشرق الاوسط ؟ ومدى استجابته للصين التي فتحت له الباب ؟ وهل تكفي تجاربه السياسية لقيادة بلاد شاسعة مليئة بالمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والقومية والمعيشية ؟ خصوصا وان هذا الرئيس الجديد ليست له اية علاقة او معرفة بادارة مؤسسات روسية أمنية حساسة مثل كي جي بي او التي ولدت عنها ، اف اس بي .. على عكس سلفه بوتين الذي تسّلم القيادة في العام 2000 ، وهو مسيطر على معلومات بلاده بحكم ادارته لأخطر مؤسسة في الاتحاد السوفييتي سابقا . وعليه ، يعتقد بعض المحللين ان مدفيديف سيبقى تحت مظلة بوتين . وانه نفسه قال بأن ” هناك رغبة من القوى السياسية المتعاطفة مع الرئيس بوتين تريده ان يكون رمزا سياسيا في المستقبل ” .
السؤال المهم : ما الذي يمتاز به الرئيس الجديد ؟
انه يشتهر بين كل معارفه كونه مناصر للتقنيات مع دراية واسعة بالاقتصاد ، وقد صّرح في اكثر من خطاب بأنه سيعالج تحسين اوضاع السكن والرعاية الصحية والتعليم والخدمات الاجتماعية . وان مدفيديف له اعتداله مع ميل كبير للغرب .. انه شاب له حيويته وتطلعاته كما يراه الناس على شاشة التلفزيونات ، وهو ينتمي الى جيل مختلف يمتاز بالذكاء والسرعة في الانجاز . هنا ، يشير بعض المعلقين الى وصفه بـ ” دمية بوتين ” .. وان الفارق كبير جدا بين الرئيس الجديد مدفيديف وبين القيصر القديم بطرس الاكبر صاحب الاصلاحات الكبرى في روسيا ، وما احوج روسيا اليوم الى مصلح كبير يؤثر فيها ويبني لها مشروعا مستقبليا في الحياة البشرية . ان روسيا بحاجة فعلا الى التغيير من الداخل كي تسترجع عافيتها بعد هذا الزمن الذي بعثرت فيه قواها ..
وان العالم ينتظر قائدا روسيا جديدا يعرف كيف يتعامل مع الولايات المتحدة الامريكية كقوة استقطاب اليوم ، ويناور من اجل مصالح بلاده . لقد كان بوتين قد نجح في جوانب العلاقات الخارجية ، ولكنه خاب في اشاعة الحريات مؤكدا على ذاته قبل كل شيئ .. ان المطلوب من هذا القادم الجديد ان يتعّلم من الاخطاء التي وقعت سواء على عهد يلتسين ام عهد بوتين .. ليختط له ولروسيا طريقا جديدا .
انه يقدّم نفسه كزعيم وطني تحتاجه روسيا بعد ثماني سنوات من حكم فلاديمير بوتين .. ومن اكبر الاخطاء التي قد ترتكب ان يبقى بوتين يحرك خيوط اللعبة من وراء الستر والحجب . او ان يصبح ” كاميرا خفية ” للزعيم الجديد .. فهل يمكن لفدفيديف الخروج من عباءة بوتين ؟ او باستطاعته منذ هذه اللحظة ان يبعد نفسه عن ظل بوتين ؟ ان التغييرات والاصلاحات لا يمكنها ان تبدأ من جديد في روسيا ، الا اذا حدث تغيير اساسي في التوجه والخطط التي يتأمل الروس ان يطلقها الرئيس الجديد . اننا قد نكون على خطأ ، فربما سينتصر هذا القادم الجديد ليس لنفسه حسب ، بل لواقعه ولا يكون نسخة مشابهة لذلك الراحل القديم .. دعونا ننتظر ..
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 12 مارس / آذار 2008
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …