الرئيسية / افكار / التفكير الجديد : الخروج من معطف الماضي !

التفكير الجديد : الخروج من معطف الماضي !

مقدمة
لم اكتشف هشاشة تاريخنا المعاصر نحن العرب الا عند مطلع هذا القرن الواحد والعشرين وكان عمري قد اقترب من الخمسين ! ولم اكن الا واحدا من ابناء جيل عاش في النصف الثاني من قرن مضى يفتخر بثوابت تربى عليها كالمواطنة والسيادة والدستور وراية الوطن وجيش البلاد والتربة المقدسة وتحرير فلسطين .. الخ . نعم ، لقد اكتشفت مؤخرا كم غدت ثوابتنا ومبادئنا هشة في هذا العصر الجديد الذي انتكست فيه الارادة ضمن اطار المواجهات الصعبة! لقد انتكست منظومتنا الاقليمية الشرق الاوسطية والعربية كلها نتيجة المتغيرات السريعة والثقيلة الداخلية والخارجية التي بلورتها عوامل داخلية متنوعة ومتعددة محضة اوصلتنا الى الحضيض الذي نحن فيه ويا للاسف !
وانني أقول ، بأن العوامل والتحديات الخارجية ما كان لها ان تكون لولا انتفاء الحكمة والعقلانية والعمل في اطار من الواقعية والصبر والتعايش الداخلي .. لقد كان هناك ولم يزل سوء التصرفات وعدم تقدير الامور حق قدرها ، وضعف شديد في مختلف الهياكل والابتلاء بالانقسامات والصراعات والنزاعات المحلية والاقليمية والعربية على امتداد القرن العشرين .. ناهيكم عن سوء في التربويات وتكوين الاجيال على مبادىء وافكار وشعارات كاذبة لا اساس لها من الصحة ولا قواعد لها من الحقيقة ! لم ازل افكر بجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية وما فعلت به الايديولوجيات الخارجية التي لم يستوعبها عن كثب ، وحاول استعارتها لتطبيقاتها في بيئته وواقعة بلا اي تفكير بالفوارق الكبيرة في طبيعة المجتمعات واختلاف مراحل التاريخ . والمشكلة ، ان هناك حتى يومنا هذا من لم يزل يتشبث بتلك ” النصوص” و ” الشعارات ” و ” التعابير ” التي لم يعد لها أي وجود في يومنا هذا .
مفاهيم جديدة
لقد كانت بعض التجارب (العربية) جديرة بالتقدير ، ولكنها نائية عن الاهتمام بها من قبل أصحاب القرار الذين يرضيهم الهوس المقنع بالرضى والتفاخر بامجاد موهومة وتواريخ لا تنعش في الذاكرة أي قيمة فكرية ولا اي ثروة فلسفية ، إذ ليس لها إلا إرضاء العواطف بالتفاخر والتنطع بالذات ، ذلك ان مشكلة الانسان تنحصر في شيئين اساسيين اثنين اولاهما ذاته وثانيهما مصلحته ! وهكذا ، كانت كل المجموعات والاحزاب والقوى السياسية تصارع احداها الاخرى من اجل شعارات واوهام غير موجودة اصلا الا في المخيال السياسي ، وخصوصا في العراق الذي شهد صراعات دموية بين الشيوعيين الاممّيين من طرف وبين القوميين البعثيين من طرف آخر ، فلا العراق كان بيئة صالحة للشيوعية العالمية ولا العراق كان صالحا للقومية العربية !
إنني أدعو إلى أن يأخذ هذا ” الموضوع ” حجمه الطبيعي من إثارة الوعي كي تدرك الأجيال الجديدة في القرن الواحد والعشرين كم خذلتها الأجيال السابقة في القرن العشرين تحت عبارات البطولات الوهمية وشعارات ” الامة الواحدة ” و ” الحزب الواحد ” و ” الطبقة العمالية البروليتارية ” .. الخ ! ولقد ثبت للناس جميعا كم استخدمت مثل هذه ” الشعارات ” سلالم تسلّق للحصول على منصب او مال او قوة او سلطة .. ولم تزل يسوقها البعض تجارة رابحة في سوق النخاسة السياسية .
المعرفة اساسا
إن معرفة الحاضر وتوقعات المستقبل لا يمكنها أن تعرف إلا من خلال قراءات معمقة في تاريخ الأحداث وسيرورتها والتفكير الهادئ والعقلاني في تقاطعاتها وتصادماتها مع سير خطوطها وبكل ذكاء كي تنطلق قوة التفكير إلى حيث الميدان بتوفر عاملين أساسيين مساعدين : حجم الحريات العامة وتكافؤ الفرص التاريخية . ان كلا منهما لا يتحققان الا اذا جرت اصلاحات واستحداثات جذرية يتطلبها واقعنا السياسي والاجتماعي في مختلف الهياكل والبنى وحتى المفاهيم التي سادت في القرن العشرين . ان نقد المفاهيم والافكار لا يمكن ان يبقى في اطار كيل الشتائم لهذا العهد او ذاك ، وان تبقى نفس الشعارات سارية المفعول حتى اليوم .. على كل اولئك وهؤلاء الخروج من معاطفهم السميكة وهم في عز الصيف ، ورفع الاقنعة عن وجوههم ، اذ لم يعد يعرفهم احد .. عليهم ان يخرجوا من شرانقهم الايديولوجية وكفاهم تشويها للحقائق ، وان لم يدركوا الحقائق فعليهم بمراجعة انفسهم واستعادة معلوماتهم وتبديل افكارهم .. عليهم ان يكونوا عقلاء لمرة واحدة في ان يكونا حياديين في اطلاق الاحكام ، وان يكونوا موضوعيين في تقييم الماضي .. وعليهم ان يكونوا مترفعين عن الاصطفاف مع هذا الخندق او ذاك .. فالحقيقة لا يمكن ان يدركها احد .. فكيف يبيح البعض لانفسهم امتلاكها .
ويا للأسف ، أثبتت التجربة التاريخية أن العرب وجيرانهم ليسوا بقادرين على مجابهة الأحداث الساخنة ! ولم يدركوا معرفة اضدادهم .. ويمكنهم أن يكونوا أقوياء فعلا في هذا ” الجانب ” إذا توفرت العناصر الأساسية للبناء : الاستقرار السياسي والتضامن الجماعي والتحسس بالشأن العام والمصالح العليا وسقف الحريات والتقنيات الحديثة والتفكير السليم والحكمة في صنع القرار … واشدد هنا على وظيفة التفكير المدهش في استنباط المعاني الأساسية التي يمكن الاعتماد عليها ، والمجردة من ادلجة عصر مختلف بآلياته وعناصره وتراكيبه وتفكيره ، يلازمه تحسس بالمستقبل رائع مجرد هو الآخر من أية نوازع سياسية أو أيديولوجية .. لكنه مكرس لخدمة جملة من المبادئ التاريخية والحضارية في ما يخص العرب والمسلمين ، وخدمة المبادئ الإنسانية عند البشرية قاطبة .. خصوصا ونحن نعلم بأن صورة العرب والمسلمين معرضة دوما للتشويه لدى المتلقي في العالم كله سواء كان التشويه مكتوبا أم مسموعا أم مرئيا !
مانشيتات ومرجعيات
لقد عج الخطاب العربي المعاصر بمضامين سياسية ورؤى تجزيئية ومجموعة من ثقافة الشتات غير المتجانسة بحيث وجدنا في كل كيان سياسي عربي مرجعية تاريخية يعتز بها ، ويشدد عليها كثيرا ، بل ويستند عليها ويدافع عن ( مشروعيتها ) الوهمية باسم الخصوصية مرة ، وباسم المحلية مرة أخرى ، وهي كلها : مرجعيات عززتها توجهات سياسية ، وتشريعات قانونية في الثقافة التربوية والإعلامية الرسمية العربية المعاصرة من أجل خلق روح مفاخرة أو حمية وطنية لدى جيل نهايات القرن ! وهذا لم يكن يعرفه ( أو : حتى يستوعبه ) جيل مطالع القرن العشرين في مناداته بإثراء الثقافة العربية الواحدة . وإذا كانت القوى السياسية العربية مع مرجعياتها الاجتماعية قد أدانت مخطط سايكس بيكو وغيره من المخططات الاستعمارية في الكتب المدرسية تربويا ، وفي ( المانشيتات ) السياسية إعلاميا . فلماذا مضت تلك القوى في تكريس عامل التجزئة سياسيا وقانونيا ؟؟ وغدا التفكير العربي يعيش تناقضات جد صارخة حادة بين الأماني القومية الاجتماعية وبين المرجعيات القطرية السياسية ؟؟ المهمة الاساسية اليوم كيف نخرج الناس من معاطف ماضوياتهم المتعبة التي اضنتهم واضنتنا عقودا طويلة من السنين .

www.sayyaraljamil.com

الصباح البغدادية ، 29 ديسمبر 2007

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …