الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / جواباً على سؤال جهاد الزين: ملالي إيران وشذوذ التاريخ !

جواباً على سؤال جهاد الزين: ملالي إيران وشذوذ التاريخ !

في مقالة اخيرة له في “النهار”(•)، اختتم الصديق جهاد الزين كلامه بسؤال مهم جدا بعد تحليل سبقني اليه لوضعية ايران اليوم، تساءل قائلا: “هل نظام رجال الدين الحالي هو امتداد طبيعي للتاريخ الايراني الحافل، دولة ومجتمعاً، ام هو استثناء، او شذوذ على هذا التاريخ؟”
وعقّب قائلا: “فلا يمكن لاي نظام مهما بلغ اعتداده بشرعيته، ان يقحم شعباً واحداً في قتال مع… معظم الكرة الارضية. قتال حتماً غير متكافئ. ونتائجه اذا وقعت الحرب كارثية على الشعب الايراني لا محالة”. انه سؤال ذكي لابد ان يدركه كل من يعتني بشؤون الشرق الاوسط اليوم، والمشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا قبل دولنا ومنظوماتنا السياسية..

هنا أود الاجابة على هذا التساؤل المهم الذي لا يمكن ان يسأله الا من تضّلع بشؤون ايران التاريخية، تلك التي كانت ولم تزل تعّبر عن طبيعتها في الامتداد الجغرافي الدائم نحو المتوسط، ومحاولاتها التي لا تعد ولا تحصى في الوصول الى سواحله، ليس من بدايات القرن 16 الميلادي، بل منذ زمن الاخمينيين الذين حكموا بلاد فارس، وكونوا لهم إمبراطوريتهم عام 559 ق.م. واستولوا على ليديا (غرب الأناضول) وضموا كل ايران والهلال الخصيب ومصر، تلك الامبراطورية التي لم يزل كل ايراني يحلم بتحقيقها ثانية، والتي امتدت في أوجها إلى جميع أرجاء الشرق الأدنى، من وادي السند إلى ليبيا وشمالاً حتى مقدونيا. وكانوا قد تمكنوا من السيطرة على جميع الطرق التجارية المؤدية إلى البحر المتوسط عبر البر والبحر؛ وقام ملوك الأخمينيين بإعادة بناء المسالك التجارية. وكان أشهر ملوكهم دارا (داريوس) الذي حاول غزو أثينا باليونان فهزم. وكان ان أسقط الإسكندر الأكبر (المقدوني) هذه الإمبراطورية عام 331 ق.م. و من ملوكها قمبيز وقورش (سيروس) .

وتعتبر فترة حكم هذه الامبراطورية فترة الحضارة الفارسية. ومنذ داريوس حتى اليوم، يحلم المتعصبون الايرانيون باعادة المجد القديم سواء كانوا ملوكا من الشاهانيين او كانوا ملالي من المعممين! وكان المجتمع الايراني على العموم لم يمثّل تعصبّات اسياده في كل نظام سياسي يحكم ايران منذ ازمان طوال، لطالما دفع الايرانيون ثمن مغامرات حكامهم وشاهاتهم وملاليهم.
نعم، لقد عرفنا دوما ان الديبلوماسية الايرانية متشحّة ليس بالكبرياء والعناد فقط، بل بالعنجهية والتعّصبات التي تستخف بالامور والاحداث والتهديدات. وان المأزق الايراني اليوم هو نتيجة طبيعية لكل تدخلات ايران السافرة في دول اقليم الشرق الاوسط وعبثها به. ولكنها ان كانت نمرا شرق اوسطيا، فانها هزيلة جدا ازاء المجتمع الدولي، بل اعتقد ان النفخ الدعائي بها اليوم يشابه ذلك النفخ الدعائي باسطورة صدام حسين وقوته التي لا تقهر بحيث يجعلها مثلما جعله يستخفان بالعالم كله خصوصا انهما لم يتعلما ابدا من تجربة احدهما الآخر. بل لم تتعلم ايران بالذات من دول انتحرت تاريخيا نتيجة سلوكها اساليبها نفسها اليوم!!

اعتقد أن ايران لا يمكنها ان تراهن على مشروعها النووي، كونها لا تعي طبيعة متغيرات الصراع اليوم. فالغرب عموما لا يقبل البتة لا لايران ولا لغير ايران ان تكون له القدرة على ايذاء ما وصل اليه العالم اليوم، او خدش التقدم التكنولوجي الهائل ووسائله المتنوعة بأي شكل من الاشكال. وان مجرد شعور ايران بالتفوق النووي هو صناعة محبوكة ومخطط لها. فلقد غدت بقرة حلوباً لكل من يستغفلها ويحلبها في كل مشروعاتها بمنطقة الشرق الاوسط. وانها صناعة مبتغاها تسريع ايران رجالات الملالي تاريخيا الى حتفها، اي جعل نظام الجمهورية الاسلامية يسارع في الانتحار من خلال هول الانفاقات التي الزمت نفسها بها، وهي تعيش في دواخلها حالة مزرية من التقشف والتخلف، ثم السماح باطلاق ايديها في الشرق الاوسط لتحميلها كل دوافع الامتداد والاختراقات التي كانت ولم تزل ضالعة فيها!

ان ايران لم تتعلم من تجاربها التاريخية كلها، فالتاريخ يقول إن طبيعتها قابلة للتمدد ولكن الاثمان التي تدفعها ازاء ذلك غالية جدا خصوصا في تواريخها الحديثة سواء في عهود الصفويين ام النادريين ام الزنديين ام القاجاريين ام البهلويين! واذا كانت تلك العهود التاريخية في ايران قد حفلت بقادة اذكياء وساسة دهاة، فان رجالات الدين الايرانيين اليوم يشكلون عبء ايران الحقيقي بسبب تخلفهم وعدم قياسهم حجمهم في العالم. ان ايران لم يحكمها على امتداد تاريخها كله رجال دين ابدا، فلقد كانوا يحركون المجتمع والبازار الشرقي ولا علاقة لهم بالدولة على عكس ما يجري اليوم في ايران.

لقد علمنا مقال الاخ الزين نقلا عن كتاب تاريخ الصراع، بأن الايرانيين لا يستطيعون ان يعنوا ما يقولون على عكس الانكليز الذين لا يستطيعون دوما ان يقولوا ما يعنون.. وهذه نتيجة رائعة خلص اليها احد القناصل البريطانيين في المفاوضات بينهم وبين الايرانيين على النفط عام 1911. كما انها اشارة خطيرة تحدد ملامح سيكولوجية بين طرفين يتقابلان، احدهما بمنتهى الذكاء كما هو حاصل اليوم والآخر بمنتهى الغباء! انني اعتقد بأن كل متغيرات الشرق الاوسط منذ العام 1979 وحتى اليوم تدور حول ما يجري في ايران، بدءا بالحرب العراقية – الايرانية ومرورا بغزو الكويت وتحريرها، ثم الحصار على العراق ثم اطاحة نظام صدام حسين.
ان الغرب يدرك ادراكا حقيقيا مدى القوة الايديولوجية التي تتمتع بها ايران وتداعياتها ليس في الشرق الاوسط وحده، بل في العالم الاسلامي قاطبة. واستطيع القول ان معظم الحركات الاسلامية السياسية المعادية للغرب والمجتمع الدولي قد انبثقت بتمويل ايراني وبرعاية ايرانية. فلا يمكن التعامل مع حالة كهذه بقرارات آنية، بل انها بحاجة الى استراتيجية طويلة الامد. فالحالة ليست سياسية انما تاريخية، والحالة ليست وليدة نظام معين يحكم ايران، بل انه ميراث تاريخي لامتداد طبيعي عرف به الايرانيون في مختلف عهود التاريخ.

اعتقد أن الضربة التي اطاحت نظام “طالبان” في افغانستان هي ضربة وقائية للشرق من ايران، في حين ان الضربة الماحقة لصدام حسين هي ضربة متسارعة للغرب من ايران، وكان على الولايات المتحدة ان تنتظر نتائج ما خططت له لتؤتي اكلها في السنة 2009 بسقوط النظامين المعنيين بلا حروب، ولكنها عجّلت في المسألة اثر متغيرات 11 ايلول 2001. وعليه، فان المجتمع الدولي اليوم يصبر طويلا على كل ما تفعله ايران الى حين ان تتحقق احدى النتائج التي اتوقعها:
1) انتحار بطيء يودي بحياة نظام رجال الدين بولادة نظام سياسي آخر متحالف مع المجتمع الدولي. والانتحار يتبلور نتيجة الجنون الذي لا حدود له من الانفاقات العسكرية والاعلامية والمخابراتية للنظام وعملياته في الشرق الاوسط.

2) تشديد الحصار عليها من كل جانب سياسيا واقتصاديا بحيث يؤدي الى خنقها، مما يجعلها دولة متيبسة لا تقاوم ابدا مجتمعها المعارض لها، فتكون النتيجة تيبّس نظام رجالات الدين وولادة نظام جديد باستطاعته اخراج ايران من مأزقها بانفتاحه على الآخرين.

3) ضربة جوية ماحقة ليس لمعسكراتها ومفاعلاتها فحسب، بل لكل مؤسسات بنيتها التحتية، تكون اقوى بكثير من تلك التي مني بها العراق في العام 1991، مما يجعلها مشلولة تماما عن الحركة ويرجعها الى العصر الحجري كالذي احدثوه في العراق.

ان الهدف الحقيقي اليوم في المنطقة هو ايران، اذ لا يمكن الغرب خصوصا ان يبقى يسمع تهديدات رجال دين وملالي لا يحترمون حقوق الانسان في الداخل، كما انهم غدوا يلعبون ببعض دول المنطقة من دون تقديم اي علاج. والعالم كله يعلم بأن دولة ايران صاحبة تاريخ له طبيعته في الامتدادات والاختراقات لكل المنطقة، وهي دولة قديمة ومؤسسة منذ قرون طوال على نظام مركزي يضم في طوقه شعوباً عدة تسير في اتجاه واحد. وانه على الرغم من ان ايران جمهورية اسلامية الا ان مبادئها القومية تسبق معتقداتها الدينية. واستراتيجيتها في الامتداد واحدة سواء كان النظام شاهنشاهيا بهلويا ام خمينيا اسلاميا. والدليل على ذلك ما قضمته من الجزر الاماراتية الثلاث، وما سيطرت عليه من مياه شط العرب العراقية على ايام الشاه، ولم يرجعهما النظام الخميني الى اصحابهما الشرعيين!

السؤال الآن: ما عوامل الانتصار ضد ايران؟ وما فرص اخفاقاتها التاريخية؟ نعم، سبقني الاخ الزين في تحليله وضعية ايران الداخلية، واستطيع ان اضيف انها بلاد شاسعة الاطراف لا يمكن السيطرة عليها في حالات الاضطراب والتخلخل، وخصوصا عند حدوث اي ضربة استباقية او استراتيجية (وهذا كلام الجنرال زاهدي ايام الشاه). وهي بلاد غير منتجة للتكنولوجيا ابدا، بل ريعية تعتمد النفط اهم ايراداتها. وهي ليست بلادا متقدمة بل متخلفة بمقاييس العصر من النواحي الاقتصادية والخدمية، فلا تكنولوجيا متقدمة ولا انظمة تصنيع ثقيل متقدم ولا انظمة ضمان اجتماعي ولا خدمات عالية المستوى. وهي صاحبة مجتمع متنوع لا يؤمن بالايديولوجيا الخمينية التي فرضت عليه قسرا. وهي لا تمارس الديموقراطية ولا حقوق الانسان في أي مجال سياسي او اجتماعي او ثقافي فلا يمكن ان يرشح لرئاسة الدولة او اي منصب كبير اي ايراني لا يؤمن بالخمينية. ولكن رجال الدين يستغلون مصطلح الديموقراطية باسلوب تمويهي لا يمت للحقيقة بأي صلة. فلا يمكن اي طرف او اي حزب او اي مسؤول قول ما يريد فالامر والنهي بيد من يتولى ولاية الفقيه، ورجال الدين لهم سيطرتهم على كل مرافق الحياة. وهنا يمكن القول إن الاسلام الايراني هو غير الاسلام التركي اليوم من حيث فهم كل واحد منهما لطبيعة متغيرات العصر، اولا، ولاختلافهما في تبني ايران ايديولوجية تريد تصديرها، ثانيا!

واخيرا، فإنني أتوّقع ان ايران سيجني عليها رجالات الدين فيها، كما سيجنون على مصير كل منطقتنا باساليب تدخلاتهم واختراقات جماعاتهم. وهم اضعف جدا من الوقوف امام ارادة المجتمع الدولي. انهم لم يستفيدوا ابدا من تجارب من سبقهم على امتداد خمسين سنة. كما انهم يعيشون اوهاما لن تتحقق ابدا، فليس لهم اي ثقل مركزي في الشرق الاوسط كله بالرغم من عبثهم بمقدراته. فهل ينتبهون الى مثل هذه الملاحظات قبل ان يكملوا على خراب المنطقة؟ وهل يمكنهم الاستفادة من تجربة صدام حسين في مناطحته الفارغة للعالم؟


(•) جهاد الزين – “امتداد طبيعي للتاريخ الايراني أم شذوذ مدمر عليه” (19/9/2007 ) .

نشرت في النهار البيروتية ، 27 سبتمبر 2007
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …