عندما اتابع التصريحات الامريكية بشأن العراق أجدها مقتضبة ومفتوحة لفرض الامر الواقع مهما كانت الاثمان ، في حين تبدو تصريحات ) القادة( من العراقيين متناقضة مطولة لا تحكمها اية مبادئ وتتحرك بقدر ما يفرض عليها من ارادة امريكية عليا قبل التشبث برهان ارادة عراقية وطنية مهما كانت تافهة !! وعليه ، فالبيض لا نستطيع ان نجده دائما وابدا في السلة العراقية ، فكثيرا ما يتم التهامه من قبل القط المتوحش الرابض على الصدور .. وما على الاخرين الا ان يقبلوا بما يريده هذا القط المخيف الذي له برنامجه واجندته بكل قوته ونفوذه وهيمنته ، وقد سمح للغرباء والدخلاء ان يعبثوا ويستهتروا بمصير العراق والعراقيين.
قبل ايام تمَ التراشق العراقي علنا بين رئيس الوزراء وجبهة التوافق ، وتبودلت الاتهامات وتدافعت التهديدات بين الطرفين .. وقبل يومين تابعت حديث السيد رئيس الجمهورية الى اذاعة سوا ، وكان يحمل حملة شعواء ضد جبهة التوافق ويتهّمها باتهامات خطيرة جدا تصل الى حد التجريم .. ولم تتوان جبهة التوافق على تجريم الحكومة ، والكلّ يعد نفسه من الملائكة الاطهار ! وكنت قد انتقدتُ الشروط التعجيزية التي طرحها التوافقيون .. ومن يطرح هكذا “شروط ” اما ان يكون جزءا من اللعبة السياسية للحصول على مكاسب ومغانم معينة او انه لا يقبل البتة بالعملية الجارية ، فيصّر على الاستقالة والانسحاب مهما كانت الاثمان ، وفي كلتا الحالتين فانني اعتبر ما يجري بين التوافقيين والائتلافيين ـ مثلا ـ هو مجرد صراع نفوذ وسلطة ووصولية لاحتكار الارادة قبل ان يدّعي ايا منهما انه بقادر على تنفيذ أي مشروع وطني او باستطاعته ان يسير ضمن برنامج مدني حضاري ..
ان كليهما يلعبان قليلا ثم تأتيهما ضربة القط على رأسيهما .. فيعلنان البراءة ودوما ما يكون الرئيس هو (العرّاب) الذي يسعى للتواجد في قلب الدار وهو يكبس ويرفع على طريقته السياسية التي تعلمّها منذ نصف قرن بكل التجارب والمماحكات ، ويأتي من بعده رئيس الوزراء السابق صاحب الوفاق ورئيس القائمة العراقية ، اذ له تجربة سياسية قديمة هو الاخر لاكثر من أربعين سنة مضت يمكنه من خلالها ان يناور باسلحة سياسية متوسطة وهو خارج اللعبة ، ولكنها ستكون قوية وثقيلة اذا كان في قلب الدار .. ان من يستمع الى تصريحات رئيس الجمهورية ضد التوافقيين لاذاعة سوا قبل يومين سيجده وقد جرّدها من كل البستها متهما اياها بتهم خطيرة .. ولكنه بعد ساعات كان يبحث مع الحكومة عن تنازلات بتطمين التوافقيين ، وان الحكومة ستقوم بتنفيذ بعضا من شروطهم ! فان لم يتماثل هذا مع ذاك ؟ او حتى يتجانس مع التصريحات النارية التي اطلقها رئيس الوزراء ضد التوافقيين ووعده ( القوي والحازم ) بعدم تنفيذه اي شرط من شروطهم !!؟
اللعبة باتت مكشوفة اذن ، فهي ليست بين فئران لا تجيد الحركة وبين قطّ متورم رابض في الدار ، وعادة ما يتدخل الامريكان ليس لنزع الفتيل ، بل لزرع تطمينات مؤقتة ، والكل يدري ان العراق بأيديهم شئنا ام ابينا .. سواء قبلنا ام ضربنا رؤوسنا في الحائط .. وسواء صدقنّا انفسنا ام صفقنا لاكاذيب هذا وتصريحات ذاك .. انني اقرأ الان الخبر التالي : ” علمت “إيلاف” أن ضمانات أميركية وأخرى عراقية لجبهة التوافق العراقية السنّية بالعمل على تنفيذ عدد من من مطاليبها ستدفعها إلى تأجيل تنفيذ تهديدها بالإنسحاب من الحكومة غدًا، فيما طلب مجلس الرئاسة العراقية من نائب الرئيس زعيم الحزب الإسلامي السنّي التدّخل لدى الجبهة لتأجيل انسحابها… وقال مصدر عراقي سياسي إن السفير الأميركي في بغداد رايان كروكر ومبعوثة الرئيس الاميركي الى العراق ميغان أوسيلفان قدما ضمانات لجبهة التوافق بالعمل على تنفيذ مطالب تقدمت بها مقابل تأجيل انسحابها من الحكومة المقرر غدًا. وأضاف ان مجلس الرئاسة قد عّبر من جانبه للتوافق عن موقفه من مطاليبها وهو يرى وجود قدر من “المطالب المشروعة التي تقدمت بها الجبهة والمنسجمة مع البرنامج الحكومي وهناك نقاط أخرى قد يكون الوقت مبكرًا لطرحها”.
كثيرا ما نقرأ لعراقيين يذهبون في آرائهم شططا باستخدام حتى الشتائم بين مختلف الاطراف ، بل وتصل الوعود الى حد القطيعة واطلاق التهديدات بين كل من الطرفين . وفجأة تجد الامور وقد سويّت بطريقة لا يخجل منها الفرقاء في الداخل .. وكأن هذا القط لا يريد البطش الا على طريقته وهو يرى الفئران امامه لا تلعب بمهارة في حفرتها ، بل كالدمى ومن دون اي ممانعة وطنية ومن دون اي مجابهة سياسية ! ان ما حدث بين الجبهويين التوافقيين وبين الحكوميين الائتلافيين لا يعّبر ابدا عن اي غايات واهداف وطنية سياسية نظيفة يتطلع اليها الشعب ويترقبها بمعزل عن مصفقّين لهذا او معجبين بذاك ! لأنهما في الحقيقة لا يعبّران عن ارادة وطنية ابدا .
اذا كان الامر قد وصل ان يقوم رئيس الجمهورية ونائبه بالاعراب عن املهما في اقناع التوافقيين بتأجيل الانسحاب من الحكومة معبرّين بالقول : ” لما لهذا الموقف من تداعيات سلبية على العملية السياسية” كما أشار البيان. وقال إن الرئيس ونائبه عبرا عن أمنياتهما في أن يتدخل رئيس الوزراء بشكل مباشر في معالجة القضايا المتفق على حلها باعتباره المسؤول المباشر عن السلطة التنفيذية. بل وأضافا ان “المجلس أعرب عن الأمل في أن يوافق دولة رئيس الوزراء على تنفيذ الخطوات المتفق عليها والنظر بجدية الى مطالب جبهة التوافق والعمل معًا من اجل الخروج من هذا المأزق بطريقة معقولة تخدم المصلحة العراقية”.
اذا كان كل هذا وذاك جائزا حسبما يريده الامريكيون ، فلماذا اذن كل هذا الماراثون المضحك بين ( سياسيين عراقيين ) شاءت الاقدار ان يكونوا مهرجّين في السيرك ليلعبوا كل هذه اللعب البهلوانية والعراق يذبح تماما ؟؟ ان حالات مشابهة قد سجلت بمنتهى الغرابة ممثلة برئيس مجلس النواب ، فبعد كل التي واللتيا ضده واعتباره سيئا وفاقدا للاهلّية .. لم نسمع ان شيئا قد حدث ضدّه سوى انه سيتقاعد براتب خيالي !! اما الوصوليون فما اكثرهم في العراق ، ولنا عنهم حديث آخر لقد سمعت قبل قليل ان التوافقيين سينسحبون من الحكومة ؟ فهل يثبت ذلك ؟ واذا ما انسحبوا ، فهل لهم القدرة على سحب انفسهم من العملية السياسية ؟ وهل تصدق تخوفات الحكومة بانسحاب التوافقيين ؟ وماذا سيحدث بعد انسحابهم ؟ وسواء بقيت الحكومة ام سقطت ، فما الذي سيغيّر في معادلة العراق ؟ ان اشغالنا بهكذا مغامرات والمطالبة بشروط تعجيزية لا يمكن تحقيقها في اسبوع من قبل ” جبهة تعبوية ” جعلت من نفسها ممثلة للسّنة العراقيين ظلما وعدوانا ، وهي بليدة في تصرفاتها ومشغولة بارجاع القديم الى قدمه ، وليس لها كلمتها التي تحترم بها كل العراقيين .. فضلا عن اجوبة حادة رافضة من قبل حكومة تمثل ائتلافا سياسيا ولا تعبر عن ضمير شعب كامل يسحق كل يوم ، بل ولا تعترض ابدا على ” حكم ذاتي ” يقوم في الجنوب يمهّد لانقسام العراق !! ناهيكم عن رئيس دولة بتّ لا اعرف مع من يكون بتصريحاته القوية ضد اناس يتهمّهم بالارهاب والقتل وبعد ساعات اجده يطالب بوجودهم ضمن العملية السياسية !! فهل باستطاعة حكام العراق الجدد وكل المشاركين في العملية السياسية ان يجيدوا تمثيل الادوار ويكونوا امناء وصرحاء مع انفسهم اولا ومع غيرهم ولو لمرة واحدة ثانيا . ام ان اللعبة قد اعجبتهم جدا ما دام نصيبهم مذهل من المنافع الشخصية .. فهل سيمتنع عن السلطة والقوة والمال من اجل ايقاف تدمير العراق والعراقيين مهما كانت الاثمان ؟؟ انني اشك في ذلك !
ايلاف ، 2 آب / اغسطس 2007
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …