Home / النقد السياسي والتاريخي / من اجل أخلاقيات رفيعة في الكتابة العراقية ثانية… محاولة لاستعادة دور ثقافي مفقود

من اجل أخلاقيات رفيعة في الكتابة العراقية ثانية… محاولة لاستعادة دور ثقافي مفقود

وأسأل: أي نزعة منهجية تقضي باجتزاء الاحداث من سياقاتها التاريخية؟ اين الطريقة المشوشة؟ اين محاولة الفصل بين السياسي والاجتماعي؟ ولماذا لا يتم الفصل بين البني التاريخية؟ واين التعسف؟ واين التغاضي عن كل معايب القرن العشرين؟ كل هذا وذاك يريدونه في لحظة زمنية واحدة.. فانظروا أي عقل يحكمنا؟ واي تفكير يلازمنا؟ انني واثق تمام الثقة ان من يطالب بكل هذه المطالب يدرك ان تضمينها من رابع المستحيلات ومع كل الاسف يتربي اولادنا وشبابنا في العراق علي هكذا طرائق مهرجانية طبع البعض انفسهم بها! وكانوا قد منحوا شهادات دكتوراه في جامعات كما تمنح الحلوي للاطفال.. واختلط الرائع بالفاسد. ان المشكلة لدي الاغلبية تتمّثل باحادية الرأي والاعتقاد بصحته من دون ترك أي هامش للاخر واحترام الرأي الاخر.. لم اشهد كاتبا عراقيا واحدا تراجع عن رأيه امام الناس، او سحب مقالة نشرها احتراما للاخرين.. لم اجد عراقيا واحدا يعترف باخطاء ارتكبها او يتنازل عن مقال نشره بحق آخرين.. الاختلاف في الرأي ووجهة النظر ليس عيبا، والوقوع في الخطأ ليس جريمة، فليس التراجع عن هذا او ذاك مثلبة او جنحة مخلّة بالشرف حتي يأخذ العزة بالاثم. ان كل مشاكلنا نحن العراقيين المعاصرين تعود الي ان واحدنا يدرك انه قد اخطأ، ولكنه لا يتراجع ويعترف امام الاخرين عن اخطائه.. وانه لم يدرك ان الاعتراف بالخطأ فضيلة، بل يعتقد ان تراجعه يمّثل عيبا كبيرا!
(مثقفون) أميون
يطالبه الناقد (الذكي) باعادة قراءة تأريخ المنطقة العربية ويأتينا بأمثلة تاريخية علي صراعات وقعت هنا وهناك وكأن الرجل لا يعرفها ولم يحللها لطلابه علي امتداد سنوات طوال في عدة جامعات عربية واجنبية.. انه لا يدرك مغزي ما قال الاول وكتب! ومن دون ان يفّكر بما هو وطني وبما هو سياسي ولم يميّز بين نسيج اجتماعي وحال سياسي؟ ومن المعيب جدا الخلط بين صراعات سياسية حزبية كانت ام تنظيمية ام سلطوية ام شوفينية.. وبين صراعات اجتماعية حقيقية بين اديان او بين طوائف او بين اطراف ومراكز وجهويات.. فهل كان الصراع في ايلول الاسود والثورة في كردستان العراق، والصراع بين الاخوان المسلمين والسلطة في سوريا.. وغيرها صراعات سياسية ام اجتماعية؟ وحتي الحرب الاهلية في لبنان كانت سياسية اشتركت فيها تكوينات طائفية لكنها لم تكن بصراع اجتماعي البتة؟ وحتي اليهود كانوا جزءا من نسيج المجتمع وما حدث لهم كان لاسباب سياسية وليس لاسباب اجتماعية.. والناس كلها تدرك ذلك، فالامر ليس عصّيا، الا اذا كان البعض يريد ان يختلق بالقوة كراهية قديمة بين ابناء المجتمع وهي كراهية مختلقة لا اساس لها من الصحة في التاريخ ! انه يريد ان يزرع اليوم فكرة تقول بأنه مختلف عنك! انه يسعي ليقول بأنك قد ظلمته! انه يريد ان يؤسس لكراهية واحقاد غير موجودة اصلا!!
اخلاقيات مهنة الكتابة
ان المؤرخ يفهم جيدا مافعله الطغاة بالشعوب، ولكن ليدرك البعض ان النزعة الوطنية ممتدة في النسيج الاجتماعي وقد عّبر عنها في القرن العشرين اكثر من أي زمن آخر، فالمواطنة الحديثة وجدت مع تكوينات القرن العشرين.. صحيح انني لا اعتبر القرن الراحل هو العصر الذهبي، ولكن المؤرخ في المستقبل هو الذي سيحكم تماما عليه.. وبالامكان مراجعة احكامي عن القرن العشرين في كتبي ومؤلفاتي! وهنا اعيد واكرر بأن حرب الاعراق والمذاهب والطوائف تفجرت اليوم في السنوات الاخيرة في منطقتنا كما تنبأ بذلك استاذنا المؤرخ الراحل البرت حوراني، ولم يكن لها وجود في القرن العشرين.. وهنا ينبغي القول بأن من المعيب جدا الاستهانة بصاحب أي رأي ورؤية.. ربما تختلف معه ومعها، ولكن من اخلاقيات المهنة ان يترفع الانسان عن رمي الاخرين بالفاظ نابية وفي تحليل قضايا واضحة لا تحتاج الي كل هذا التجريح! وكثيرا ما رمي الاستاذ الراحل علي الوردي ـ رحمه الله ـ باحجار هذا او ذاك، ولكنه بقي عاليا وذهبت احجار الاخرين في واد سحيق! وكان يقول دوما: دعهم يرمونني باحجارهم، فلا يزيدني ذلك الا صلابة وارتفاعا.. انني انصح كل جحافل الكتّاب الجدد بالرجوع لقراءة الكتب المختصة بمناهج الكتابة واخلاقياتها ويتمرسوا علي اصول التحرير وآداب النشر.. وكثيرا ما كنت ارجع طلابي الي كتاب الدكتور علي جواد الطاهر الموسوم (منهج البحث الادبي) ويتأملوا في الصفات التي ينبغي ان يتحلي أي كاتب بها..

الجبل لا تصعدونه بعجلات اطفال
ان مقالا من 800 كلمة لا يمكن الحكم علي صاحبه بانحراف رؤية او اختلاط الوان.. هذا عيب باثارة متعمدة لا معني لها ومناطحة فاشلة لا مغزي منها.. او تحميل العربة اكثر من طاقتها.. ان مقالا نشر اصله في صحيفة عربية شهيرة كأي مقال يومي لا يمكن ان يؤسس صاحبه من خلاله أحكاما تاريخية حكيمة ولا يمكن تضمينه بقراءات حصيفة لمخاضات حقيقية!! هذا (الناقد) كمن يريد من مارد الصعود الي الجبل بعجلة صغيرة، فانتم فرحين بها، ولكن اتحداكم ان كنتم ستصعدونه !! ان من اصول الكتابة ان يبقي الكاتب يلتزم بالافكار التي يتمحور البحث حولها، اما الاستطراد الذي يخرج الموضوع عن طوره، فهذا ما كّنا نعّلمه لطلبتنا في سنواتهم الدراسية الاولي كي يتجنبونه.. ان العراقيين اليوم قد اصبحوا كتلة من لهب، لا تقترب من احدهم الا ويريد حرق كل هذا العالم.. انه ينتمي الي فئة اجتماعية صغيرة، ويريد ان يناطح بها كل العالم.. بل ولا يتحّمل أي فكرة او أي وجهة نظر.. وما دامت مصالحه قد ذهبت في سياق من نوع آخر، فهو علي استعداد ان يشّوه كل تاريخه وكل اصوله وكل طقوسه وكل علاقاته القديمة!
معايير الكتابة
من البساطة ان يسّب الانسان ويشتم الاخرين، ولكن ان كان الاخرون قد آذوه فعلا.. ومن السهولة ان تستخدم كل وسائل التجريح والرموز البدائية ان كنت متخلفا وجاهلا وليس لديك اسلحة كافية ولا ادلة وافية، ولكن ان كنت اخلاقي المهنة وواسع الافق وعميق الثقافة، فمن السهولة ان تجادل الاخر وتأخذ وتعطي معه وخصوصا ان كانت هناك اخطاء جسيمة في المعلومات والحقائق.. اما ان تكون هناك آراء وافكار واحكام واجتهادات.. فأتمني علي الاخوة الكتاب العراقيين ان يستوعبوا ذلك ويقابلوا الرأي بالرأي والحجة بالحجة وان يدققوا في المعلومات وباسلوب ديمقراطي خال من الترصد والسماجة والنقمة وبث الكراهية والتعبير عن احقاد وسموم.. ان اختلاف الكتّاب والمثقفين وتباين افكارهم ورؤاهم هو غير اختلاف السياسيين والمتحزبين وابناء الشوارع فهؤلاء يصارع احدهم الاخر علي مصالح ومنافع ومناصب ونفوذ ومسروقات.. فما الذي يدعو المثقف الحقيقي للتخلّي عن روعته وسموه واخلاقياته ومعلوماته ومعارفه كي ينحدر لاسباب واهية لا معني لها في استخدام تعابير غير لائقة ضد مثقف آخر حتي وان كان من نوع آخر؟؟
درس مفقود متي يستعيدونه؟
المؤرخ الحصيف لا يمكن لأحد ان يشفق عليه، فهو يدري ما يقول وقد صدقت رؤيته في الكثير من توقعاته.. وسواء اتفق معه الناس ام اختلفوا، فهي رؤي ثبت للناس انها صحيحة وليست واهمة.. ويعيد ويكرر ان الزمن سيثبت ما الذي سيحل من فجائع وكوارث في المنطقة، وهو يستند في هذا علي ارقام تعلن طغيان معدلات مخيفة من الجهالة والامية وما سيحل من تفكك وضراوة في تقسيم المجتمع.. ان من له عقل راجح وهو يري ويسمع ما يحدث علي هذه الارض وفي هذه المنطقة بالذات، ويقرنها بالذي يحدث في العالم اليوم سيبكي طويلا.. ان من له أي قدرة في تقييم الحياة هو غير من لم يفّكر الا في رهاناته وكيفية تجريحاته ليشفي غليله.. وعليه ان يراجع نفسه قليلا ويتأمل في هكذا احكام سريعة فاقدة لمغزاها ودلالاتها.. ان العراقي الحصيف لا يعيش في خندق حزبي او قبلي او طائفي او جهوي.. والحصيف يأبي الا ان يؤسس تقاليد مستنيرة لنفسه.. ان اخلاقيات الكتابة العراقية مهمة جدا في تبادل الرأي علي نحو نظيف لا تشوبه الشوائب.. ان اسلوب الاثارة والكتابات الهستيرية تزيد من مشكلات الواقع وتمزيقه، وستنتهي بانتهاء مرحلتها ولم يبق الا من يملك ارادة مستقلة ونظافة فكرية ومعرفة عميقة.
لابد لي ان اسجّل انه لا يمكن ان يشتري المرء منك ويبيع اليك افكارك.. لا يمكن ان نستخف بالاخرين لنأخذ افكارهم ونسجلها ضدهم.. لا يمكن لصاحب اي ضمير حي ان يتاجر بالافكار ضد اصحابها.. والمؤرخ الحصيف يدرك ان هذه الطريقة لا تجدي نفعا معه، وهو اكبر من ان يحتكر افكاره.. خذوا افكاره ايها العراقيون ولكن قولوا من هو صاحبها.. خذوا ما شئتم من كتبه ومقالاته وبحوثه ودراساته.. ولكن ادوا الامانات الي اهلها.. خذوا خطابه ولكن بادراك عميق وفهم واضح.. ان الجدل الفكري هو غير الجدال السياسي.. وان الحوار حول قضية معينة لا يحتاج الي استخدام لغة مراهقة، فلقد علمّني احد اساتذتي منذ زمن بعيد ان من يكتب عن الاخرين ينبغي ان يبقي له خط رجعة، فالمرء لا يمكن ان يكون علي صواب دائما.. وليس من الصواب ابدا ان يحرق الانسان كل اوراقه.. ان العراقيين بحاجة ماسة الي ادراك اولويات الحوار وطريقة الخلاف واحترام الرأي الاخر.. ان العراقيين الحقيقيين لا يمكنهم ان يشتموا الشخص وهم يعانقونه.. او يقتلونه عمدا ثم يمشون في جنازته.. وكم يتمني المرء ان يزدان العراق بنخب المثقفين الحقيقيين لا ليتباهي بهم ويمجدّهم، بل ليعطيهم حقهم ولا يقلل من شأنهم او يبخس اعمالهم من اجل استعراضات واهية او الصعود الي قاماتهم علي سلالم مكسرة.. انها ليست مواعظ بقدر ما هي دروس معلم متواضع.. ربما استخدم لغة قاسية في نقد ساسة او قادة او ملالي.. ولكن لا يمكن ان استخدم اللغة نفسها مع مثقف او كاتب او مختص.. فهذا صاحب رؤية وذاك مبدع خّلاق وهذا صاحب قلم وتفكير او صاحب فكر وتعبير وتنوير.. وعليه، اتمني علي كل الاخوة من الكتّاب العراقيين ان يكونوا اكثر مهارة وان يتعلموا اسرار احتراف الكتابة.. وان تكون لهم اخلاقيات عالية جدا في جدلهم او جدالهم.. في نقدهم او انتقادهم..

وعلي كل عراقي ان يعرف قدر نفسه، وان يكون منطلقه وطنيا لا طائفيا او شوفينيا في صياغة مقالاته.. وان يبتعد عن القاء التهم جزافا خصوصا وان تهمة الطائفية جاهزة اليوم وتهمة الفاشية جاهزة هي الاخري.. وتهمة القومجية والتكفيرية والوهابية والصفوية والرافضية والنواصبية.. الخ حاضرة حتي في اللاوعي.. وان يقدّر كل كاتب عراقي حجمه في سوق الكتابة وان يدرك كم باستطاعته ان يركض اسوة بالاخرين.. عليه ان يتعلم دروسا في التهذيب.. وان يتوجس كثيرا في كتابته، وهو يناطح الاخرين، او يبغي التسلق علي شهرتهم او مكانتهم، فالشهرة لا تؤسس من خلال عبارات تحت الحزام مع اعتذاري ان اسأت التعبير ليس مع احدهم او ثانيهم، بل مع جمعهم الخير الكبير الذي نريد ان نبني منه صرحا حضاريا في قابل الايام. فهل وصلت رسالتي هذه الي من اعنيهم بالذات؟ انني اعتقد ذلك تماما.
www.sayyaraljamil.com
Azzaman International Newspaper – Issue 2701 – Date 21/5/2007

Check Also

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …