هذا الجسر من معالم بغداد الحضارية .. ومن اجمل ما تركه لنا ذلك العهد الجميل .. انه اطول جسر يبنى في الشرق بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ، والعالم يدرك قيمة تلك الجسور الحديدية الحضارية والتاريخية ، فنجدهم يحافظون عليها ويعتزون بها.. والعراقيون يعرفون بأن ذلك الجسر يمثّل رمز التواصل بين الصرافية وبين العطيفية اي بين الرصافة والكرخ .. انه يعني التلاحم التاريخي والمصيري بين السنة والشيعة . بأي معنى اذن يتم ذبح بغداد وذبح تاريخها وتراثها بتحطيم معالمها الاصيلة ؟ ان تدمير هذا الجسر الحديدي يعني تحدي التاريخ وكيفية استجابة العراقيين لانهيارات هذا الزمن الكسيح .. ان مشروع قتل العراق لم يقتصر على تفجير الناس الابرياء ، بل واستهدف المؤسسات العراقية ، بل طال الثقافة في شارع المتنبي وقلب بغداد وطال اليوم معلما حضاريا بضرب هذا الجسر الرائع .. ليس بهدف انهاء جمالياته اليومية ، بل لقطع الارحام في بغداد بين الرصافة والجسر !! سقط ربع الجسر في قاع النهر .. ويقال : سقطت السيارات مع اكوام من الحديد اثر الانفجارين .. انفجاران هزّا بغداد لينهار الجسر انهيارا من طرفين . اذ يقال ان شاحنة ملغومة قد انفجرت ، فما سر الانفجار الثاني ؟ من اين جاء ؟ من فجر الجسر ثانية بعد لحظة واخرى ؟ علينا ان نتساءل ايضا : من هم القتلة ؟ من يقف وراء هذه العملية الاجرامية ؟ من له مصلحة حقيقية في اغتيال هذا الجسر ؟
انه من اجمل جسور بغداد ، ويبلغ طوله 450 مترا وعرضه ستة امتار مع ممر خاص للمشاة بعرض مترين. وهو اعلى جسر عن مستوى النهر في بغداد كلها . وقد بني بمحاذاة مسار خط السكك الحديد بين محطتي شرق بغداد وغربها. وكان عبور القطار فوق دجلة وبموازاة الجسر مباشرة شيئا عجيبا قبل خمسين سنة حتى سمي بجسر القطار . لقد عدّ الجسر احد اجمل معالم بغداد قبل الغاء السكك الحديد والقيام بتوسيعه.
عراقيون في بغداد وفي اصقاع العراق وعراقيون في شتات هذا العالم بكوا جسر الصرافية بكاء مرا ، لأن العراقيين كلهم ، عاشوا اعمارهم مع ولادة وحياة هذا الجسر الذي بناه الانكليز على مدى سنتين 1946- 1948 ، وافتتحه الملك فيصل الثاني ـ رحمه الله ـ ومشى وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة من العمر برفقة رعيل من كبار رجالات بغداد عهد ذاك ليقطعه مشيا على الاقدام وهو يتقدم الناس الذين تقاطروا عليه من كل حدب وصوب يهتفون له وهو يبتسم لهم ويحييهم .. ولم يكن يدر بخلد ذلك الملك الوديع واولئك الرجال من العراقيين البناة ان الجسر سيفجره الرعاع والقتلة الاوباش بعد قرابة ستين سنة من بنائه . كان العراقيون يفتخرون به وهم يمرون عليه بثلاث وسائل : مشيا على الاقدام وما اجمل المشي عليه في اويقات الصباح والمساء او على متن السيارات والعربات .. او في القطار اذ ربطت المحطة العالمية لأول مرة من خلاله بمحطة قطار بغداد ـ كركوك !!
لقد بقي القطار يسافر يوميا بركابه او حمولاته من بغداد عبر الجسر نحو كركوك واربيل حتى توقف العمل به ايام العهد السابق لعدم اهتمام العهد السابق بخطوط سكك الحديد في العراق ولا بتطويرها . ويتألف الجسر من سبعة فضاءات بطول 80 متراً لكل فضاء باستثناء فضاءين يختلف طولهما، ، وكان عبور القطار فوق دجلة وبموازاة الجسر والى جانبه مباشرة يعد واحداً من اجمل معالم بغداد قبل ان يصار الى الغاء القطار والسكة معاً واجراء توسعة ”مرورية“ عليه، ويشتهر الجسر باسمين هما الصرافية والحديدي ,فيما كان اغلب العراقيين من خارج العاصمة يسمونه جسر القطار.
علينا ان نقول ، اننا قبل ان نبكي هذا الجسر ، ونلقي بالتهم جزافا على هذا وذاك ، علينا ان نسأل : من يكون وراء هذه الجريمة القذرة ؟ من يريد قطع شرايين بغداد ؟ ان جسر الصرافية شريان رئيسي في الجزء الشمالي من المدينة. وغالبا ما تستخدمه حافلات الركاب الصغيرة والمركبات التجارية المتجهة من وسط بغداد الى الاسواق في المناطق الشمالية بالمدينة. وتوجد نقاط تفتيش عند مداخل معظم الجسور الكثيرة فوق نهر دجلة في بغداد. وتباينت الروايات حول ما اذا كان انتحاري يقود الشاحنة ام تم تفجيرها عن بعد. واسفر الانفجار عن انهيار جزء كبير من الجسر وسقوط عدد من السيارات المدنية في نهر دجلة. لقد سمع دوي الانفجار في انحاء بغداد. وقد غطت سحابة من الدخان الابيض منطقة واسعة بحيث انعدمت الرؤية بشكل كامل حسبما افاد صحافيون من وكالة فرانس برس.
وأسأل : اذا كانت قوات عسكرية قد قطعت سير المركبات على الجسر قبل الانفجار ، فهل سقطت سيارات من فوقه الى القاع ؟ وهل اخرجت السيارات ؟ ومن هم اصحابها ؟ هل ثمة رواية اخرى غير التي سمعناها بشكل رسمي ؟ من المؤكد ان ثمة ناس يعرفون الحقيقة ، ولكنهم لا يبوحون بها !! ولكن ما الرواية الاخرى التي سمعناها ؟
ان الانفجار ادى الى انهيار جزء كبير يقدر بربع الجسر. لقد طارت بعض عوارض الجسر المعدنية في الهواء وسقطت في النهر… كان انفجارا مروعا بسبب شدته وقوته التي ادت الى هدم جزء منه وسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى فضلا عن السيارات التي سقطت في نهر دجلة ، خصوصا وان الجسر يزدحم بشكل كبير في اوقات الصباح .. ونسب القول الى احدهم : “احد اطارت العربة التي اقودها اصيب بثقب بينما كنت وسط الجسر. وعندما كنت اهم باصلاحه توقفت شاحنة على الجانب الايسر فطلبت من سائقها الابتعاد قليلا لانني بانتظار شاحنة لسحبي من المكان”. واضاف : “ابتعد عني مسافة عشرين مترا وفي تلك الاثناء شاهدته يترجل هاربا من الشاحنة باتجاه الوزيرية ما اثار شكوكي فابلغت مفرزة للجيش بالامر فهرع الجنود الى مكان الشاحنة فوجدوا اسلاكا مخفية واخرى ظاهرة تؤكد انها مفخخة”. وقال ان “الجيش قطع الجسر من جانبي الكرخ والرصافة لكن الشاحنة انفجرت قبل ان يتم اخلاء الجسر بصورة كاملة”. يشار الى ان الجسر يشهد ازدحاما شديدا خصوصا في اوقات الصباح والظهر بسبب اغلاق جسر الاعظمية الذي يقع شمالا.
لا ادري مدى صحة هذه ” الرواية ” ، اذ لا يقال باتجاه الوزيرية ، بل باتجاه الصرافية فالوزيرية بعيدة بعض الشيئ عن الجسر . انني اشكك بصحة هذه ” الرواية ” التي لم يزل صاحبها على قيد الحياة ، فكيف استطاع الخلاص ؟ واين هي سيارته الان ؟ ولماذا لا يتم التحقيق معه تحقيقا كاملا ؟ ومن ذا الذي رأى الاسلاك مخفية ؟ واين اصبح هيكل الشاحنة المفخخة بعد انفجارها ؟ اتمنى ان تعرض نتائج التحقيقات كاملة على الشعب العراقي لمعرفة من يكون وراء هذه الجريمة .
ثمة اسئلة بحاجة الى اجوبة صريحة وامينة اذ كشف رئيس مجلس النواب أن أجهزة الأمن ” أغلقت الجسر لمدة ساعة قبل الإنفجار” ، مطالبا تلك الأجهزة بـ ” تقديم إيضاح” حول كيفية وقوع الحادث . طيب ، لماذا حدث ذلك ؟ ولماذا يستفسر رئيس المجلس بهكذا اسئلة يشكك فيها بالرواية الرسمية ويطالب بالكشف عن الحقيقة ؟؟ خصوصا وان جسر الصرافية يعد أحد الجسور المهمة لحركة تنقل السيارات بين شطري العاصمة ،وهو يربط وسط بغداد بالمناطق الشمالية من العاصمة . اعيد السؤال : لماذا يكشف المشهداني أيضا عن ما قال إنه معلومات تحدثت عن “خطة إرهابية ،معدة منذ شهر ،لفصل الكرخ عن الرصافة (في بغداد)… بهدف تقسيم كل جانب منهما إلى مناطق” يسهل السيطرة عليها ؟؟ هذا كلام خطير لابد ان يجد اجوبة حقيقية من اجهزة الامن المسؤولة . واذا كان رئيس البرلمان قد اطلق تساؤلاته ، لكنه لم يتهّم الأطراف التي تقف وراء الخطة . ان العراقيين لابد ان يسألوا عن كل شاردة وواردة في ما حدث في جسر الصرافية خصوصا !
www.sayyaraljamil.com
الصباح البغدادية ، 18 ابريل 2007
Check Also
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …