الموسيقار الراحل في تأليف احدى سمفونياته عام 1984
ومنذ العشرينيات ولحد الان ( نحن) حائرين لا نعرف ماذا نريد!!!؟ “.
من رسالة فريد الله ويردي الى سيار الجميل ايلول 2005
” He always thought of you and he missed your company”
Mariam Farid Werdi in her letter to me dated 2nd of Feb. 2007
رحل الصديق الفنان الموسيقار فريد الله ويردي بلا استئذان .. رحل هذا الرجل وهو يصارع الغربة والمرض بعد ان غاب كغيره من المبدعين العراقيين عن ترابه ووطنه واهله.. غاب مرتحلا وفي قلبه غصة ، اذ كان يتمنى ان يعود الى العراق وان يموت فيه .. ولكن القدر أخذه وسيأخذ غيره من العراقيين الذين ينتظرون حلمهم يتحقق .. رحل فريد الله ويردي بعد ان بقي في المستشفى بالعاصمة الايرلندية دبلن قرابة اسبوع ، ولاحقته جلطة دموية وعجز كلوي فرحل وهو لم يحقق امنيات كان يحكيها لي من وقت لآخر .. رحل هذا الفنان العراقي القدير ليلتحق بقافلة مضت من المبدعين العراقيين الذين انجبهم القرن العشرون .. ولا اعتقد ان العراق سينجب من امثالهم لزمن قادم طويل بعد ان دخل العراق غيبوية التاريخ ونزق الجهالة وعتمة العقل وبلادة الحياة ..
زيارة الفنانين للزعيم عبد الكريم قاسم عام 1959 ويبدو في الصورة من اليمين الى اليسار
ابراهيم جلال وخالد الرحال وفريد الله ويردي ومحمود صبري
الموسيقار ويردي الثاني من اليمين مع مؤسسي الفرقة الاوركسترالية العراقية في الاربعينيات
كنت قد سمعت بالموسيقار فريد كثيرا ، انه الفنان العراقي القدير الصديق الاستاذ الدكتور فريد الله ويردي .. واحد من المثقفين المتميزين من جيل الرواد المبدعين في الموسيقى الكلاسيكية الذين برزوا في عقدي الخمسينيات والستينيات . عرفت الفقيد منذ زمن بعيد ، مثلما عرفه غيري من المثقفين العراقيين .. نعم ، كان من جيل البناة والرعيل الاول الذي نشأ على العهد الملكي ، وهو من عائلة مسيحية شهيرة في كركوك فاسرة الله ويردي ابرز اسرة مسيحية كركوكية ، ولكن الرجل قضّى اغلب حياته في بغداد ، وكان ان تعب على نفسه طويلا ليغدو واحدا من امهرالفنانين : موسيقار اوركسترالي عراقي يشار اليه بالبنان في العديد من عواصم الغرب ، ارسل لي قبل سنوات عدة كاسيتات منقولة لابرز اعماله الموسيقية العالمية وهي مسجّلة من اذاعات اوربية وامريكية ولم ازل احتفظ بها .. وقد لاحظت تعليقات من يقدّمه الى الناس من مذيعين كم هي زاخرة وثمينة بحقه ..
وكانت تجمعه صداقات وزمالات بالعديد من اشهر الموسيقيين والمؤلفين في العالم ، ولكن العراق والعراقيين لم يعرفوا قدره ، ولم يثمنوا دوره ، بل ولم ينل حقّه من الاهتمام ، بل كان قد حورب حربا لا هوادة فيه لاسباب سياسية ولاسباب شخصية اذ حقد عليه بعض خصومه لاختلاف مدرسته عن اساليبهم وافكارهم .. وخصوصا بعد ان لحّن النشيد الوطني في اول جمهورية انبثقت بعد 14 تموز / يوليو 1958 ، وقال بأن ذاك ” النشيد ” لم يكن هو نفسه السلام الجمهوري ، اذ كان النشيد الوطني غير السلام الجمهوري ، ولما كان قد نال لحنه اعجاب الزعيم عبد الكريم قاسم ، فلقد كان ذلك سببا في ان يلاحق من قبل القوميين والبعثيين بعد 8 شباط/ فبراير 1963 ..
مدرسة عراقية في الفن الموسيقى العالمي
ولعل اهم ما يمكنني ذكره في تقديمي لهذا الرجل انه لوحده مدرسة بارعة في الفن الموسيقى الراقي الذي يهذب النفوس ويسمو بالانسان الى مصاف عليا لا يبلغها الا المتصوفة في مناجاتهم الروحية . ولد وعاش طفولته وشبابه في العراق ، واستهوته الموسيقى وفنونها الرحبة مذ كان طفلا ، اذ تعلمها منذ نعومة اظفاره على يد والدته الارمنية القديرة المثقفة .. وساح في بلاد العالم المختلفة وتعلم في ايطاليا وروسيا وفرنسا والولايات المتحدة الامريكية على ايدي اشهر الاساتذة والموسيقاريين الاوركستراليين العالميين . وحصل على عدة شهادات وميداليات وجوائز في الموسيقى النظرية والتطبيقية . وعمل في العراق ردحا طويلا من الزمن وكان من المؤسسين للفرقة السيمفونية العراقية مشتركا مع ابرز واعظم الموسيقيين المبدعين العراقيين من ذوي السمعة العالية .. وكان يثني على دور الشريف محي الدين حيدر الذي يعده ابو الموسيقى المتطورة في العراق ..
كتب فريد الله ويردي نبذة تاريخية عن قسم الفنون الموسيقية منذ تأسيس معهد الفنون الجميلة وهو من قدامى طلبة المعهد الموسيقي. وذلك في 10 نيسان / ابريل 1979 وذكر فيه دور كل من الاستاذين التربويين الكبيرين الدكتور متي عقراوي والدكتور فاضل الجمالي في مشروعهما لوزارة المعارف بتأسيس المعهد منذ اواسط الثلاثينيات ، ويعتبر كل من الاثنين من مؤسسي منظمة اليونسكو التابعة للامم المتحدة لاحقا بباريس ورشّح الموسيقار حنا بطرس لتنفيذ المشروع الذي افتتح ايلول / سبتمبر 1936 بإدارة الفنان حنا بطرس، متخِّذاً مبنى نادي المعلمين الكائن إلى يومنا هذا في جهة “الشط” لنهر دجلة، قبالة سينما الزوراء في منطقة المربعة ببغداد، وبعد عدة شهور أي في مطلع عام 1937 تم إستقدام أساتذة من الخارج وهم: الشريف محي الدين حيدر (لإدارة المعهد وتدريس العود والفيولونسيل، و هومن أصل حجازي، ينمتي للعائلة الهاشمية المالكة)، وعبدو الطبّاع (لتدريس الناي، من سوريا)، ونوبار ملخصيان (أرمني من تركيا، لتدريس القانون)، وأنيس جميل سعيد (فرنسي من أصل تركي، للكمان الغربي)، ومن ثم جاء ساندو آلبو (من رومانيا، للكمان) وجوليان هرتز (من رومانيا، للبيانو).
فريد وزوجته الروسية ميلا
التقى فريد بفتاة روسية اثناء اقامته في روسيا ، فتبادلا الحب واقترنا وعاشت معه ، واحبت العراق والعراقيين وتعلمت العربية وانجبا ولدا وبنتين ، ولم تزل زوجته المثقفة الفنانة ميلا ( ام ليث ) تهوى هي الاخرى الفنون الموسيقية والفولكلورية والتحف القديمة وتعشق الحياة العراقية وقد وقفت معه في السراء والضراء .. وميلا التي فقدت اليوم فريد والتي كلمتها اليوم تلفونيا تعيش لحظاتها الصعبة كانت تجهش بالبكاء وقد افتقدت رفيق دربها ، بل وان ذكريات العراق لم تزل راسخة في عروقها منذ ان استقرت فيه وحتى مغادرتهما فقد قرر مع زوجته ان يغادرا العراق معا قبل سنوات ليغدو استاذا للفايولين ( = آلة الكمان ) في عدد من الجامعات ومنها جامعة اليرموك بالاردن .. وقبل ان انتقل الى تحليل معلوماتي عن الرجل لابد ان اذكر بأن له ثقافة واسعة في قضايا عدة في مختلف شؤون الحياة ، وخصوصا في القضايا الطبية والعناية بالجسم والفيتامينات والجماليات ، ناهيكم عن معلوماته الخصبة عن اصدقائه القدامى من الفنانين والمثقفين العراقيين .
الموسيقار الهادىء
اشتهر الموسيقار فريد الله ويردي بالعديد من مقطوعاته الموسيقية والسيمفونية الجميلة التي نال من خلال تأليفها على شهرة دولية وخصوصا في اوروبا ، علما بأنه قد عزف في امريكا ايضا ، وهو متمكن في تخصصه ومثقف في اسلوب حياته وله باع لا يقدر بثمن برصيد اولئك الرواد من الفنانين والادباء والمبدعين العراقيين الذين كان لهم شأنهم في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين . ومن ابرز سمات هذا الرجل : هدوء طبعه وحسن معشره وطيب مجلسه .. واغلى شيىء عنده ارشيفه الذي يحمله في اي مكان يحط فيه ناهيكم عن ثروته العزيزة جدا على قلبه ، والمشتملة على لوحات ثمينة جدا والات موسيقية عديدة منها عدد من الفايولينات (= الكمنجات ) والبيانو .. انه يحتفظ بلوحة ثمينة جدا اهداه اياها صديقه جواد سليم ، وقد كان قد علقها بغرفة نومه كي تعيش ذكرى جواد معه دوما .. سمعته مرة يعزف البيانو كونشرتو رقم 5 للموسيقار موتسارت ، فأسرني ذلك جدا .. وجلسنا نحادث واحدنا الاخر لساعات طوال عن كلاسيكيات الموسيقى العالمية .
تعرفت به وتوثقت العلاقة بيننا برغم فارق العمر ، وكنت اصغر منه قرابة ثلاثين سنة ، ولكنه لا يشعرك الا وهو صديق قريب منك جدا اذا ما وجد الاثنان فرصتهم المقاربة ثقافيا وفنيا وعراقيا قبل كل شيىء برغم الاختلاف الفكري او الايديولوجي او حتى السياسي . نعم ، توثقت العلاقة بيننا وهو يجل كل اصدقائه ، ويمتد حديثنا فريد الله وأنا دوما عن الموسيقى بشرقيها وغربيها وعن فرص التجديد في الموسيقى العربية الحالية التي يراها متدنية جدا في مستواها وهابطة كثيرا في التفكير والاداء والذوق الخاص والعام بسبب السياسات المقصودة التي اتبعها اغلب الدول العربية في النصف الثاني من القرن العشرين .. ضد الفنون الراقية واشاعة كل ما هو متخلف وردىء في الحياة ! ولما ابتعدنا واحدنا عن الاخر ، كنا نتبادل الرسائل المطولة بالانكليزية ولم ازل احتفظ برسائل قيمة كان قد حدد فيها معلومات مهمة جدا عن الموسيقى والغناء العراقيين .. وكيف فشل العراقيون في ان تكون لهم ادوارهم الفاعلة في الموسيقى العالمية ، بفعل هجمة الانغلاق والتخلف باسم ( المحافظة على التراث ) !
مع الفنان التشكيلي الراحل جواد سليم في حفل المجلس الثقافي البريطاني لتكريم جواد سليم عام 1953 وتبدو في الصورة لورنا زوجة جواد سليم
لقد امتلكت عنه معلومات غاية في الاهمية في ما يخص مواقفه من التراث الموسيقى الحالي في المجتمع العربي وجيرانه ومشاركيه من المجتمعات الاخرى في المنطقة . كما وكنا نتبادل اطراف الحديث عن ابرز المقطوعات العالمية من سيمفونيات وكونشرتوات واوبريتات عالمية ، وهو يعلم ما اريده تماما وخصوصا شغفي وولعي القديم بالموسيقى الكلاسيكية التي انتجها عمالقة الموسيقى في القرن العشرين وفي مقدمتهم الموسيقار النمساوي غوستاف مالر واضرابه .. او يأخذنا الحديث من خلال ذكرياته الخصبة عن المثقفين والمبدعين العراقيين الذين زاملوه وصادقوه وكانوا نخبة مثقفة عالية المستوى تلك التي برزت بعد الحرب العالمية الثانية كنتاج تاريخي وحقيقي لمجتمع عراقي جديد ولد مع نهايات الحرب العالمية الاولى . وكم افصح لي الرجل عن معلومات تاريخية غاية في الاهمية عن سلوكيات واخلاقيات واساليب ابناء تلك النخبة الحية التي اختلفت في بينها سياسيا وايديولوجيا ، ولكنها اتفقت على خطوات منهاجية تجديدية عراقية مستنيرة واحدة في الابداع واحترام الزمن وعشق التراب والانفتاح على العالم !!
فكان ان برز من ابناء تلك النخبة المثقفة والمبدعة العراقية نسوة ورجال كان لهم صيتهم وشهرتهم في الافاق القريبة والبعيدة سواء كان ذلك في الشعر والادب ام في الموسيقى والالحان ام في الفن التشكيلي متعدد السمات ام في العلوم والقانون والاداب .. ويجد القارىء الكريم تفصيلات وتحليلات موسعة عن شرائح تلك النخب العراقية المتميزة في كتابي الموسوم : ” انتلجينسيا العراق : النخب المثقفة في القرن العشرين ” . ولعل من اكثر اصدقاء فريد الله الذين اطلعني من خلال ذكرياته وارشيفه الثمين الذي يضم مجموعة قديمة من الالبومات المصورة عنهم واكتسبت معلومات تاريخية مهمة عن احوالهم واساليب تفكيرهم ومناهج ابداعاتهم : صديقه الفنان الراحل جواد سليم التشكيلي العالمي الذي رحل عن الحياة وهو في ريعان الشباب بعد انجازه نصب الحرية في قلب العاصمة بغداد وكم كانت زوجته الانكليزية تعشق بغداد ولا ندري اين هي الان ! وهناك صديقه الاخر الشاعر الراحل بلند الحيدري والفنان التشكيلي الراحل شاكر حسن آل سعيد .. وهناك السياب ونازك الملائكة ( التي عرفها موسيقية عازفة ) وابراهيم جلال وغيرهم كثير من ابناء تلك النخبة المثقفة والمبدعة .
لقد كانت تلك النخبة المبدعة من المثقفين العراقيين قد وصلت الى اوج ذروتها في عقدي الخمسينيات والستينيات ايام الحكم الملكي وبدايات العهد الجمهوري على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم .. ويروي لي الاخ فريد الله ويردي كم كان مع جماعته من ابناء تلك النخبة قد اعجبوا وما زالوا حتى الان معجبين بالزعيم عبد الكريم قاسم الذي وجدوا فيه بطلا عراقيا خلصهم من الاستعمار والتبعية فضلا عن اعجابهم منقطع النظير بعراقيته الاصيلة الصرفة .. وكان اغلبهم يميل الى التيار الماركسي فكرا من دون اية ممارسات او انخراطات في الشيوعية بحكم برجوازية الحياة العراقية للطبقة الوسطى في المجتمع والدولة معا ! وعليه ، فهم يختلفون اختلافا جذريا عن التيار القومي وممثليه على الساحة في ذلك الوقت العصيب ، ويرى هؤلاء الخصوم بأن التيار القومي العربي كان شوفينيا في قهر من يخالفه ليس في المبادىء السياسية ، بل حتى في النزعة القومية ! وهذا تفكير تبلور منذ زمن ليس بالقصير ابدا ، ولكنه انغرس بشكل كبير في السنوات الاخيرة من القرن العشرين وتبلورت ممارساته العلنية في العديد من البلدان العربية .
خلاف حقيقي بين مدرستين
لا اكشف سرا ابدا اذا قلت ان الموسيقار فريد الله ويردي تمرد على سياسة رسمية تقليدية كاملة تبناها الفنان العازف الشهير منير بشير الذي بدأ يعمل على تجريد العراق من كل ما بني من محاولات موسيقية تجديدية وفنية للارتقاء بالفن الموسيقى عموما منذ الثلاثينيات والاربعينيات ، وان يغدو العراق في قابل الايام واحدا من البلدان التي تعتز بمدرستها الموسيقية العالمية نظرا للجهود الدولية التي أسسها الموسيقار الشريف محي الدين حيدر في بغداد ، ويعتبر هذا الاخير مدرسة فنية شهيرة عالميا .. ويستطرد الصديق فريد الله ويردي قائلا : ولكن السياسة الفنية التي اعتمدها منير بشير رسميا على عهد النظام السابق عكست خطى مدرسة تقليدية تراجعية من نوع آخر ، فهي تؤمن ايمانا راسخا بالتراث والعمل على تطويره وابقاء القديم على قدمه .. علما بأن الموسيقى والفولكلوريات التراثية العراقية غنية جدا بكل اشكالها ومضامينها . ولكن هذا – حسب ما يعتقده ويردي – لا يصلح ابدا للتطور الموسيقي ، وهو تطور معقد بحاجة الى علوم مختلفة لا يقبل ابدا مبدأ التطريب واستنساخ النوتات القديمة او تحريفها وتزويرها وتقديمها الى الناس باعتبارها اعمال مبتكرة !
ان منير بشير – كما يراه ويردي – ليس فنانا حقيقيا ، فهو لا يعرف يقرأ النوتة وكل ابداعه هو مجرد تقليد تراثي لا اكثر ولا اقل ! ويرى ان اخاه الموسيقار جميل بشير عملاق له قدراته وموسوعيته وابداعاته ومدرسته على عكس منير ! وكثيرا ما كان ويردي ينتفض اذا ما ذكر اسم منير بشير امامه ! انهما بالفعل يمثلان مدرستين مختلفتين تمام الاختلاف .. واننا نرى بأن مدرسة التقاليد والتراث هي التي انتصرت بقوة القرار السياسي المتخلف الذي حكم العراق في العقود الاخيرة من القرن العشرين .. اذ تراجعت واختفت مدرسة التطور والابداع في العراق وكان الموسيقار فريد الله ويردي واحدا من روادها المؤسسين ..
لقد وقف هذا الرجل وقفة شجاعة بوجه سياسة النظام السابق المتخلفة للموسيقى ويسجل له : اعتراضه الشديد على تلك السياسة في اجتماع موّسع برئاسة السيد طارق عزيز ، مما حدا بالاخير الى ان يعّنف الموسيقار فريد الله تعنيفا شديدا .. لقد شهدت الموسيقى العراقية ومدرستها التجديدية انتكاسات مريعة ، وابتذلت كثيرا الى جانب الغناء العراقي ، كما وانهارت فرق فنية عراقية عدة منها الفرقة السمفونية العراقية وفرقة الانشاد العراقية وانكفأت الاصوات النسوية المتمكنة وبدأت تختفي الاصوات الحضرية النقية على حساب انتشار الاصوات المتخلفة .. وانزوى اغلبالموسيقيين العراقيين الكبار لتختفي المقطوعات العراقية الاصيلة على حساب ابتذال البيئة ..
الخلاص في الاختفاء من العراق !!
لقد كان الموسيقار فريد الله يعاني من حرب سياسية ضده وضد فنه ليبقوه معلم نوته فقط اذ ارادوا قتل كل ابداع مجدد يمكن ان يكون له دور عالمي .. مما اضطره الى ان يختار الخروج من العراق واختفى صوته من العراق بعد ان هاجر منه قبل سنوات .. ومازال يتنقل بشيخوخته في هذا العالم من مكان لآخر تشفع له سمعته العالمية واصدقاؤه من اشهر الفنانين الاوركستراليين في العالم حتى استقر في السنوات الاربع الاخيرة في دبلن بايرلندا . وقد كتبت عنه في كتابي ( نسوة ورجال : ذكريات شاهد القرن ) وفي ( زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ ) وكنت اتمنى دوما لهذا الرجل المبدع الذي اثرى موسيقانا المرموقة وساهم في صناعة عدد واسع من المبدعين وكان له دوره العالمي في التأليف الموسيقي العالمي .. اتمنى له الصحة ومديد العمر ، وان يأخذ له مكانته في تاريخنا الثقافي العراقي الحديث ، ولكنه رحل اخيرا بلا وداع ، ورحلت معه معاناته وهمومه وكم كان يتمنى ان يعود ليرى العراق بعد هجرته منه ، ولكن امنيته لم تتحقق كباقي امنيات غيره من المثقفين العراقيين والمبدعين الحقيقيين . نسأل للموسيقار فريد الله ويردي الرحمة واتمنى على كل الاخوة المثقفين العراقيين ان يبقوه في ذاكرتهم اذ كان الرجل وفيا للعراق ومحبا للعراقيين المتحضرين وعاشقا لكل حبّة من تراب العراق ، وكثيرا ما استسلم لحركات سمفونية سجلت باسم الموسيقار فريد الله ويردي .. وابقى اطيل التأمل والتفكير فيها وهي تمتاز بجمالياتها وروعة تقاسيمها .. وتعد المنصورية واحدة من اجمل اعماله .
شنهو الراي.. دّليني!!
نشرت في العام الماضي مقالا بعنوان خطاب الى العراقيين كتبت في مقدمته قائلا : ” تسلمت قبل ايام طردا من صديقي العراقي الحميم الموسيقار الدكتور فريد الله ويردي الذي يقيم مع زوجته الروسية المثقفة في دبلن بايرلندا، وقد اهداني بعض تسجيلات اعماله الموسيقية التي تمّ تقديمها في صالات ومسارح كبرى في العالم وهو يعرف كم اهوى الموسيقى الكلاسيكية العالمية وانجح في تحليل حركاتها وفواصلها وتراكيبها وتحليل فترات الصمت.. لقد بقيت منغمرا في عالمه الرحب، واكتشفت كم نجح هذا المثقف العراقي الاصيل في ترجمة الديمومة العراقية الخالدة، ونجح ايضا في التعبير عن سمات التلاوات القرآنية الهادئة ليجعلها بمثابة ” انترفيس ” موسيقى تربط مختلف التعارضات بينه وبين الاخر مهما كان عالم ذلك الاخر.. وان الاخر الذي اقصده هو نفسه المزروع في جنبات العراق ودواخله المختلفة، وهو نفسه الذي يتربص مفترسا في دائرة المحيط القريب او في البعد البعيد!
وفجأة تتهادى في ذاك الشريط نفسه اغنية عراقية قديمة من الارشيف السمعي العراقي النادر الذي يلازم الموسيقار فريد الله ويردي وكان له الفضل في التقاطها منذ عقود طوال من السنين.. والذي كتب لي في رسالته الاخيرة قائلا: ” سجلتها لك لتوافقها مع وضعنا المأساوي في الوطن العزيز!! ومنذ العشرينيات ولحد الان ( نحن) حائرين لا نعرف ماذا نريد!!!؟ “. كانت الاغنية العراقية النادرة التي ارسلها لي مسجلة هي الموسومة بـ ” شنهو الراي.. دليني ” وتأتي بعد مقام عراقي ادّاه مع الاغنية وبجدارة منقطعة النظير فنان عراقي قديم عاش في ما بين الحربين العالميتين اسمه: عبد الامير الطويرجاوي، وقد اعدت بنفسي سماعه مرات ومرات، وكم يكتشف الانسان في كل مرة عند مطلع القرن الواحد والعشرين بأن العراقيين على امتداد قرن كامل مضى واختفى بكل آلامه ومآسيه واوضاره واوصابه بقوا ينادون او يبكون وينوحون او يتساءلون قائلين الغادي والرائح: ” شنهو الراي.. شنهو الراي دليني “، وكأن لا رأي موحّد يجمعون عليه على امتداد مائة سنة!!”
وأخيراا
وآخر ما يمكنني قوله في الصديق الراحل ان تبقى ذكراه حية لدى اجيال العراق ، وان يهتم باعماله كل الفنانين العراقيين في القادم من الايام والسنين ، وان تكون تجربته الرائعة مدرسة معّبرة وجميلة ، وان تكون خصاله اسلوبا لكل المثقفين العراقيين الحقيقيين .. سأبقى احتفظ بكل المعاني الخصبة التي رسمها هذا المثقف العراقي الاصيل ، واناشد وزارة الثقافة العراقية بتأبينه واتمنى على كل المثقفين العراقيين ان يذكروا واحدا من اخلص زملائهم لترابه وعشقا لفنه ووفاء لاصدقائه .. رحم الله الفقيد والهم اهله وذويه الصبر والسلوان ودامت ذكراه على المدى .
ايلاف 4/2/ 2007
www.sayyaraljamil.com