لا يمكن ان نتصور الديمقراطية العربية وقد ولدت فجأة ولادة قيصرية لنرى الانسان في عالمينا العربي والاسلامي يتمتع فجأة بحرياته وحقوقه وواجباته وفرص النجاح في حياته ، فضلا عن ضمان عيشه الكريم .. فذلك سوف لا يتوفر ابدا بمثل هذه السرعة الخارقة .. ولكن لا يمكننا ان نتخّيل ما يحدث في شبه تجارب ديمقراطية جديدة ، ونقرنها بتجارب انتخابية عربية شغلت النصف الاول من القرن العشرين ، ولكنها ادينت من قبل الانظمة الراديكالية ووصفوها بالفساد وتدخلات الاقطاع بالاستحواذ على المقاعد النيابية بشراء الاصوات بالقوة والترهيب والترغيب .. واليوم تدان التجارب الانتخابية العربية بالانحراف اثر تدخل القوى السياسية الدينية بالاستحواذ على المقاعد النيابية من خلال توظيف ملايين الاصوات بالقوة والترغيب وهوس المشاعر. ناهيكم عن الانقلاب من احزاب وطنية ( تنويرية وليبرالية وتقدمية ) للفترة 1919 – 1949 الى احزاب دينية ( اصلاحية وسلفية وطائفية ) للفترة 1979 – 2009 ، وبين المرحلتين عاشت المنظومة الاجتماعية العربية في ما اسمي بـ ” المد القومي ” للفترة 1949 – 1979 ، والذي فرضت فيه القوى القومية ( النهضوية والحزبية والشوفينية ) نفسها ولم تحاول ان تطّور الديمقراطية ابدا ، بل كبلت المجتمعات بالعسكرة والاحادية ودكتاتورية البطل القومي !
ان مشكلة الديمقراطية اليوم تتوزع على جميع القوى والتيارات وانها قد اصبحت اداة سهلة للشغب والانقسامات والانشطارات والتشظيات والاحقاد والكراهيات .. كونها رائعة الاهداف والمعاني ولكنها سيئة جدا في التطبيق وانها قد خلقت ازمات في داخل بنية الحزب الواحد .. فلا يمكن ان يتخّيل العالم حزبا عريقا جدا مثل حزب الوفد الليبرالي العتيق بمصر وهو ينقسم فجأة على نفسه ويتشظى ليستخدم الرصاص بين اعضائه كالذي حدث قبل اشهر !! ربما يقول قائل ان تجارب برلمانية وحزبية في العالم قد حدثت فيها هكذا انشقاقات . اقول : بلى ، ولكن قد يحدث هذا حتى الضرب بالاحذية وتبادل الشتائم بين حزبين اثنين او بين اكثر من اتجاه واحد ، ولكن ان تصل لدى اعرق حزب ليبرالي درجة اطلاق النار وسقوط قتلى وجرحى فهذه تجربة عربية بليدة بحاجة الى وقفة تاريخية طويلة ..
الانكى من ذلك كله ما حدث ـ مثلا ـ في : الجزائر والعراق ولبنان .. وان تصل درجة الاختلاف السياسي الى الخطف والقتل والنحر والتفخيخ كي نجعل العالم يقف مندهشا ومستنكرا هكذا تجارب نخوضها باسم ” الديمقراطية ” .. ويستدعي ذلك الى اكثر من وقفة لاستعادة فهم جملة عوائق اجتماعية حقيقية تقف بوجه تقدمنا. والمشكلة الاخرى ان العرب يقبلون املاءات الغرب عليهم من دون أي عقل ولا أي منطق . بل واصبحت الولايات المتحدة تطلق جملة من المعلومات والمفاهيم الخاطئة التي لا تتفق ابدا وحقائق الجغرافية والتاريخ والواقع من اجل تمرير الديمقراطية السريعة التي لا تجد أي حاضنة لها ..
ان الديمقراطية الحقيقية ، عملية سياسية واعية وذكية ولا يمكنها ان تتطور الا في ظل اوضاع امنية مستقرة ، والاعتماد على كل الاطياف الوطنية في حوارات لا تؤجج المشاعر المتوقدة ، أو تصريحات لا تشعل القلوب الساخنة . ولا يمكن ان تجرّب حظوظك في الديمقراطية الا من خلال مؤسسات سياسية مدنية لا من خلال مرجعيات دينية او طائفية ولا في ظل اولياء امور واوصياء وزعماء ما ان يصلوا السلطة حتى يعتبرون انفسهم جبابرة ويتوهمون ان الارادة الالهية قد اختارتهم لهكذا مناصب .. السؤال : الاصوات لمن ؟ للبرامج ام للشعارات ؟
ان المشكلة ليست بالرأي العام الذي يريدونه يبصم من دون أي دراية ولا عقل ، بل انها ابشع عملية من استغلال عواطف المجتمع القبلية ومشاعر الملايين الدينية او تعصبات الشرائح الطائفية .. انها – ايضا – مشكلة ساسة وكتاب والاف من اعلاميين واشباه مثقفين يتحذلقون ويتخندقون تبعا للاهواء .. انهم يضحكون على انفسهم بوصف انفسهم أنهم اصحاب حضارات متقدمة في العالم ابان القرن الواحد والعشرين .. وهم يدركون ادراكا حقيقيا مدى التخّلف الذي تثوى عليه فيه مجتمعاتهم التي تعيش حياة العصور الحجرية لا الوسطى قط ! انهم يدركون جيدا بأن العلاقات السياسية والاجتماعية اشبه بحياة الغاب فالقوي يأكل الضعيف ، والشقي العصي ينحر الاحرار ، بل وان الانقسامات المذهبية والطائفية قد وصلت الى ذروتها .. انني لست ضد من يغّير مواقفه ويجدد افكاره بتأثير الحرية والتقدم .. ولكنني لا اتخّيل اتخاذ صراعات الطوائف بديلا عن صراع الطبقات ! وصراعات القوى بديلا عن صراع الافكار !
السؤال : ما العمل ؟
اعتقد ان مخاض التحولات في منطقتنا العربية وعالمنا الاسلامي لا يمكن ان ينتهي بسرعة من دون اثمان تدفع من قبل المجتمع وعلى مدى زمني ليس بالقصير ابدا .. ومن اجل اختزال الزمن ، ينبغي تسمية الاشياء والمعاني باسمائها واعتماد من يدرك ذلك ليكون مرجعا ، وان يسمع كل المسؤولين لما يقوله الرأي العام وما تقترحه النخبة الذكية .. لابد ايضا ان تتغير المناهج التربوية والجامعية بما ينتج تفكير نوعي ، وتشكيلات نوعية جديدة لجيل جديد يرسخ تقاليد واصول واخلاقيات لمن يأتي بعده .. ان هكذا مقترحات لا يمكن وصفها بالطوباوية عديمة التحقق ، اننا ان شئنا ام ابينا فلابد ان تمر مجتمعاتنا بهذه المستلزمات وستأخذ لها اكثر من جيل .. ربما تتعثّر الديمقراطية لاسباب مباشرة وغير مباشرة . ولكن لا يمكن لعالمنا ان يمضي في تجاربه الخاطئة كما الفنا ذلك من دون ان يتعلم من تجارب تاريخية لشعوب اخرى .. ان الديمقراطية مسألة نسبية ، ولكن ان كانت بداياتها صائبة ، فستكون رائعة في سيرورتها التاريخية نحو المستقبل .
البيان الاماراتية ، 23 اغسطس 2006
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …