نامي فقد غنى اله الحرب الحان الســـــــــــلام
نامي جياع الشعب نامي النوم من نعم الســـــــلام
نامي فنومك فتنــــة ايقاظها شر الاثــــــــام
نامي جياع الشعب نامـي حرستك آلهــة الطعــــام
الجواهري في ( تنويمة الجياع )
يعد محمد مهدي الجواهري واحدا من ابرز شعراء العرب في التاريخ ، وقد اطلقت عليه صفات وتسميات عديدة ، ولكن صفة ” شاعر العرب الاكبر ” غلبت عليه في ارجاء العالم العربي كله اذ غدا مالئ الدنيا وشاغل الناس المثقفين . وقد عاش الجواهري القرن العشرين بطوله ، وكان قد قدم للعراق ابداعاته وادواره السياسية وانتخبه المبدعون العراقيون ان يكون على رأس تكوينهم النقابي .. قضى العقدين الاخيرين من حياته في المنفى وهو يتطلع الى اليوم الذي يزال فيه صرح الظلم والاضطهاد من اجل ان يرجع الى وطنه ليموت فيه .. ولكن حلمه تحقق بعد رحيله .. اذ كان قد مات في دمشق بحسرته ودفن فيها ولم ير العراق . وسواء اختلف النقاد والكتّاب حول الجواهري وشخصيته ومواقفه السياسية .. الا انني اعتبره آخر سلسلة الشعراء الكبار في الشعر العربي الكلاسيكي .. اذ لم يبق ولم يظهر من بعده أي شاعر من وزنه حتى اليوم .
قصة حياته المكتنزة
وُلد الشاعر محمد مهدي بن الحسين بن عبد علي بن صاحب الجواهر الشـيخ محمد حسن في النجف الاشرف في 26/7/ 1899م ، والنجف مدينة مقدّسة تقصدها الالاف المؤلفة من الناس لزيارة ضريح الامام علي بن ابي طالب (ع) فيها .. وكانت ولم تزل تعّج بالشعراء والادباء ورجال الدين اذ تستقر بها الحوزة العلمية للشيعة الجعفرية في كل العالم . وكان أبوه عبد الحسين عالماً من علماء النجف ، أراد لابنه الذكي أن يكون عالماً، لذلك ألبسه عباءة العلماء وعمامتهم وهو في سن العاشرة . وكان لهذه الأسرة في النجف مجلس عامر بالأدب والأدباء يرتاده كبار الشخصيات الأدبية والعلمية . درس في المدرسـة العلوية ثم أخذ علوم اللغة والأدب عن كبار مشايخ الغري، ونبغ في الشعر مبكراً ودرس القرآن الكريم ثم حفظ دواوين الشعر العربي وخصوصا المتنبي الذي حفظ له كل شعره وهو لم يزل فتى غرير. كان قوي الذاكرة ، سريع الحفظ ، ويروى أنه في إحدى المرات وضعت أمامه ليرة ذهبية وطلب منه أن يبرهن عن مقدرته في الحفظ وتكون الليرة له. فغاب الفتى ثماني ساعات وحفظ قصيدة من (450) بيتاً واسمعها للحاضرين وقبض الليرة الذهبية . وفي سنة 1917، توفي والده وقد غدا محمد مهدي في ريعان الشباب ، فحزن عليه .. وبعد أن انقضت أيام الحزن عاد الشاب إلى دروسه وأضاف إليها درس البيان والمنطق والفلسفة.. وقرأ كل شعر جديد سواء كان عربياً أم مترجماً عن الغرب من خلال تتبّعه الصحف والمجلات العربية .
وكان في أول حياته يرتدي العمامة لباس رجال الدين لأنه نشأ نشأةً دينيه محافظة ، ومدح الملك فيصل الاول بقصائد رائعة وكان لا يزال يرتدي العمامة ، والحقيقة انه لم يبق من شعره الأول شيء يُذكر ، وأول قصيدة له كانت قد نشرت في شهر كانون الثاني / يناير العام 1921 ، وأخذ يوالي النشر بعدها في مختلف الجرائد والمجلات العراقية والعربية ، فنشر أول مجموعة له باسم ” حلبة الأدب ” عارض فيها عدداً من الشعراء القدامى والمعاصرين . سافر إلى إيران مرتين : المرة الأولى في العام 1924 ، والثانية في العام 1926 ، وكان قد أُخِذ بطبيعتها الجميلة ، فنظم في ذلك عدة مقطوعات . ترك مدينة النجف العام 1927 بعد ان ضاقت به وضاق بها ليُعَيَّن مدرّساً في المدارس الثانوية ، ولكنه فوجيء بتعيينه معلماً على الملاك الابتدائي في قصبة الكاظمية شمالي بغداد .
انتقل الجواهري إلى بغداد سـنة 1927 فعيّن معلماً في بعض المدارس الابتدائية وفي هذه الفترة حدثت مشكلته المشهورة مع الأستاذ ساطع الحصري مدير المعارف العام على أثر نشر قصيدة له يقال انه ذمّ فيها العراق ومدح إيران، فاتهم بالشعوبية وفصل من وظيفته .. اما الجانب الاخر من المسألة ان الحصري ناصبه العداء بالذات لأكثر من مرّة ولأسباب شخصية تتّوضح في رسائل ومساجلات قديمة وقعت عليها .. ولكن وزير المعارف الذي كان يرعى الجواهري ويلتزم جانبه توسـط في تعيينه بوظيفة كاتب في البلاط الملكـي. أصدر الجواهري في العام 1928 ديواناً أسماه ” بين الشعور والعاطفة ” نشر فيه ما استجد من شعره . استقال من البلاط سنة 1930 ، ليصدر جريدته (الفرات) ، وقد صدر منها عشرون عدداً ، ثم ألغت الحكومة امتيازها فآلمه ذلك كثيراً ، وحاول أن يعيد إصدارها ولكن دون جدوى ، فبقي بدون عمل إلى أن عُيِّنَ معلماً في أواخر سنة 1931 في مدرسة المأمونية ، ثم نقل الى ديوان الوزارة رئيساً لديوان التحرير .
في العام 1935 أصدر ديوانه الثاني بإسم ” ديوان الجواهري ” . واتهم بنشر قصيدة سياسية في جريدة ” الإصلاح” عرّض فيها بوزارة ياسين الهاشمي فارتأى وزير الداخلية رشـيد عالي الكيلاني إحالة الجواهري إلى المجلس العرفي العسكري إلا أن رئيس الوزراء ياسـين الهاشـمي لم يوافق على ذلك فاسـتدعى الجواهري ووعده بأنه يرشـحه لإحدى النيابات الشاغرة عن لواء كربلاء وقبل أن يتم ذلك وقع انقلاب بكر صدقي – حكمت سليمان الذي أسقط وزارة الهاشـمي ، فسارع الجواهري إلى تأييده ومباركة الانقلابيين وأصدر جريدة اسـمها ” الانقلاب” في اواخر العام 1936أيد على صفحاتها وزارة حكمت سـليمان ومدح رئيسها وهاجم وزارة الهاشمي ، ولكن وزارة الانقلاب لم ترشـح الجواهري نائباً في الانتخابات التي أجرتها ، كما كان يتوقع ، بل إنها اسـتغلت بعض ما نشره في جريدته فأحالته على المحاكم وصدر الحكم عليه بالسجن بضعة أشـهر.
وبعد خروج الجواهري من السـجن اختار لجريدته اسـماً جديداً هو ” الرأي العام” ، ولم يتح لها مواصلة الصدور ، فعطلت أكثر من مرة بسبب ما كان يكتب فيها من مقالات ناقدة للسياسات المتعاقبة . ولما قامت حركة مايس1941 العسكرية بقيادة رشيد عالي والعقداء الاربعة ويونس السبعاوي وبمعيتهم السيد امين الحسيني مفتي فلسطين ، أيّدها الجواهري وبعد فشلها غادر العراق مع من غادر إلى إيران ، ثم عاد إلى العراق في العام نفسه مادحا الامير عبد الاله ومقتربا من نوري باشا السعيد ليستأنف إصدار جريدته (الرأي العام) وقد نهج فيها الان نهجاً يسارياً واضحاً وعوتب الجواهري في حينه لاقتصاره في قصائده على مدح الجيش الأحمر وانتصاراته في سيفاستوبول وسـتالينغراد فنظم قصيدته المشهورة “تونس” التي امتدح فيها الجنرال مونتغومري.
وفي العام 1944 شارك في مهرجان أبي العلاء المعري في دمشق ، وألقى قصيدته الشهيرة التي اهتاجت لها كل المشاعر العربية ، ومطلعها : ” قف بالمعرة وامسح خدها التربا ” .. أصدر في عامي 1949 و 1950 الجزء الأول والثاني من ديوانه في طبعة جديدة ضم فيها قصائده التي نظمها في الأربعينيات والتي برز فيها شاعراً كبيراً لا يدانيه أحد . وفي سنة 1946 أصدر الجواهري جريدة باسم ” صدى الدستور” وانتخب نائباً عن كربلاء ولكن المجلس لم يدم طويلاً وحلّ في سـنة 1948 وفي تلك السنة سافر إلى لندن ضمن وفد صحافي عراقي وانفصل عن الوفد وبقي في لندن مدة ثم سافر إلى باريس وفيها نظم ملحمته الغزلية “أنيتا” ثم شارك في عام 1950 في المؤتمر الثقافي للجامعة العربية الذي عُقد في الاسكندرية بمصر .
أقام في مصر مدة وعاد إلى بغداد فحرر في بعض صحفها واعتقل في أبو غريب في سنة 1952 ثم اطلق سراحه ، وأصدر جريدة اسمها “الجديد” في أيار/ مايو 1953 ثم غادر العراق إلى دمشق في سنة 1956 فاتخذها سـكناً وعهد إليه فيها بتحرير جريدة ” الجندي” التي تصدرها رئاسة أركان الجيش السـوري. وعاد الجواهري إلى بغداد في تموز / يوليو سنة 1957 . وفي السنة التالية وقع الانقلاب العسكري فجر يوم 14 يوليو 1958 بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم الذي اعقبته ثورة جماهيرية عارمة ، فتحمس له الجواهري وأيده بشعره ومدح قاسم بعدة قصائد كانت اشهرها : ” عبد الكريم وفي العراق خصاصة وقد كنت الكريم الاوحدا ” وأعاد إصدار “الرأي العام” وانحاز إلى اليساريين انحيازا كاملا وساير الشـيوعيين وانتخب رئيساً لاتحاد الأدباء ونقيباً للصحافيين في العراق ، وقد اقترب من الزعيم قاسم كثيرا على غرار العديد من المثقفين العراقيين التقدميين الكبار وشارك في عدة مؤتمرات ونشاطات .. ثم حدثت جفوة بين الاثنين لأسباب عدة .. واجه بعدها مضايقات مختلفة فغادر العراق في العام 1961 إلى لبنان ومن هناك استقر في براغ ضيفاً على اتحاد الأدباء التشيكوسلوفاكيين . أقام في براغ سبع سنوات ، وصدر له فيها في العام 1965 ديوان جديد سمّاه ” بريد الغربة ” . عاد إلى العراق في العام 1968 بعد انقلاب قاده البعثيون في 17 يوليو / تموز 1968 وخصصت له حكومة الانقلاب وبتوجيه من رئيس الجمهورية احمد حسن البكر راتباً تقاعدياً قدره 150 ديناراً في الشهر من اجل ان يقدم مدائحه للنظام الجديد . في العام 1969 صدر له في بغداد ديوان “بريد العودة” . وفي العام 1971 أصدرت له وزارة الإعلام ديوانين ، هما ” أيها الأرق” و ” خلجات ” .وفي العام نفسه رأس الوفد العراقي الذي مثّل العراق في مؤتمر الأدباء العرب الثامن المنعقد في دمشق . وفي العام 1973 رأس الوفد العراقي إلى مؤتمر الأدباء التاسع الذي عقد في تونس . ومن اشهر قصائده التي تغّنى بها لمناسبة اصدار حكومة البكر بيان آذار 1970 ومنح الاكراد العراقيين الحكم الذاتي قصيدة رائعة مطلعها : اختلف مع نظام الحكم البعثي في العراق ، فعزم على مغادرته ، واختار دمشق واستقر فيها واطمأن إليها واستراح ونزل فيها ، ولما كان هناك خلاف بين نظامي الحكم بين سوريا والعراق ، فلقد رحب به الرئيس حافظ الأسد و كرمه بمنحه أعلى وسام في البلاد ، فمدحه بقصيدة عصماء عنوانها ” دمشق جبهة المجد ” .. عاش سنوات طويلة في الغربة وكانت براغ مدينته المفضلة ، فقد عشقها تماما .. زار عدة بلدان عربية وغير عربية ومن اشهر من مدح من الزعماء الملك الحسن الثاني في المغرب والملك الحسين بن طلال في الاردن وتوفي الجواهري في 27 يوليو / تموز 1997 بعد ان عاش 98 سنة بالضبط ، فقد كان قد ولد في 26 يوليو / تموز 1899 ، وبهذا فهو يعد واحدا من شهود العصر في القرن العشرين بطوله . نال عدة أوسمة وجوائز منها جائزة اللوتس، وجائزة سلطان العويس.
اسلوب الجواهري في شعره وحياته
يتصف أسلوب الجواهري بالحرارة في التعبير والقوة في البيان والانجذاب في الإحساس الملتحم بالصور الهادرة كالتيار في النفس ، ولكنه يبدو من خلال أفكاره متشائماً حزيناً من الحياة تغلف شعره مسحة من الكآبة والإحساس القاتم الحزين مع نفسية معقدة تنظر إلى كل أمر نظر الفيلسوف الناقد الذي لايرضيه شيء .. انه قمة نتاج عصارة كل من تاريخ عظيم للادب العربي في زمنه العريق على ارض وادي الرافدين .. وايضا تاريخ عجيب لسلسلة احداث سياسية واجتماعية ثقيلة شهدها العراق في كل من القرنين التاسع عشر والعشرين . انني اقول بأن الجواهري قد جمع كل متناقضات الحياة العربية ليس في طبيعة شعره المذهل ، بل في طبيعة مواقفه السياسية والشخصية المتباينة .. وخصوصا وانه مدح عدد كبير من الحكام العرب وقفوا بأنفسهم على رأس تلك التناقضات ، ومنهم الملوك والرؤساء والامراء المعروفين في القرن العشرين : فيصل الاول وغازي الاول وفيصل الثاني وعبد الاله وعبد الكريم قاسم ومحمد الخامس والحسن الثاني واحمد حسن البكر وحافظ الاسد والحسين بن طلال وغيرهم كثير ، ويقال انه ذّم وهجا صدام حسين بقصيدة شنيعة المعاني ومقذعة الكلمات بقي الناس يتداولوها سرا ، علما بأن علاقة وشيجة كانت قد ربطت بين الاثنين في بدايات حكم البعث ، ناهيكم عن علاقته بالبكر . لقد غادر العراق ولكنه بقي حتى ايامه الاخيرة لا يّصرح بمعارضته النظام السابق بشكل مباشر خوفا من اجهزة النظام .
لقاء واحد ببغداد قبل ثلاثين سنة
كان هناك ببغداد مثقف واديب موصلي قديم يقطنها منذ عشرات السنين وهو شيخ عجوز يعتني بوقته وصحته والبسته واسلوب حياته وهو العم الاول لوالدي رحمهما الله .. كان يسكن في بيت جميل بشارع الضباط في منطقة راغبة خاتون بالاعظمية في بغداد واسمه الحاج جميل الجميل .. كان يبرّني كثيرا ومن اسعد الاوقات عندما ازور بغداد من وقت لآخر ان اجلس اليه طويلا واستمع الى ذكرياته الخصبة واشعاره وافكاره القديمة وكانت له صداقاته الواسعة مع مثقفي بغداد القدماء .. أخذني يوما معه الى مقهى الزهاوي الكائن بشارع الرشيد وكان عمري قد تجاوز العشرين بقليل ، ووجدت نفسي في حلقة موسعة من شيوخ كبار السن البغداديين الافندية المثقفين المشهورين .. وبينهم على ما اذكر : كوركيس عواد ومحمد مهدي الجواهري وحافظ جميل ومحمد بهجت الاثري وآخرين لم اعرفهم .. كانوا يتداولون حديث الشعر والنثر ، والجواهري معجب ايما اعجاب بقصيدته العصماء التي اقامت الدنيا ولم تقعدها ، تلك التي دبجها عندما صدر بيان آذار / مارس وعقد الصلح بين الاكراد والحكومة البعثية في العراق ، وشارك الجواهري في الاحتفالات الكبرى ، والتي كان مطلعها : طيف تحّدر من وراء حجاب غضر الترائب مثقل الاهداب . اذكر انه كان يجيب بذكاء وسرعة وبلهجته النجفية التي يتأتىء ببعض كلماتها المفخمة على اسئلة مارقة كان يوجهها اليه الشاعر اللاذع حافظ جميل بتبديل كلمة او تغيير قافية او يماحكه بقوله ان الجواهري شاغل للناس من دون ان يمالىء الدنيا كالمتنبي فالدنيا قد تبدلت .. فيجيبه الجواهري انه يكفيه قد شغل الناس ودّوخ رؤوسهم سياسيا من دون توت ولا رمان ولا عنب !! وفي جوابه تورية لقصيدة حافظ ( يا توت يا رمان يا عنب ) !!
كانت جلسة رائعة لم اشهد مثلها في حياتي بين رجالات اصحاب عراقة من المثقفين العراقيين القدماء الذين لهم اسلوبهم في الحوار ولهم تقاليدهم في الاداء ولهم سعة في التفكير ولهم سماحة في النقاش وقبول التورية ولهم شفافية في الاختلاف ولهم جمالياتهم في التصوير ولهم فوق هذا وذاك اختياراتهم للنكتة التي لا يتدراكها من لم يكن سريع البديهة ويتلقفها الجميع بسرعة فيتندرون على اشخاص معينين مسؤولين سياسيين او مثقفين جدد مشاركين في السلطة ربما بلغة صعبة المراس يفهمونها كعراقيين ولكنها لا يدركها غيرهم . انني اذكر بأن الرجل الجواهري رحمه الله ، كان يختلس النظرة الي ربما مستفهما عن حضور شاب في مقتبل العمر هذا الجمع الحافل وكنت ساكتا اسمع فقط ما يدور على الالسن وما تعتمله المشاعر .. كان الجواهري يدخن سجائره التي لا يحصى عددها اذ يشعل الواحدة من عقب الاخرى ويتلذذ بشرب الشاي الداكن .. وفجأة يسأل الجواهري عني فيجيبه عمي الكبير الاستاذ جميل الذي كنت اجلس بقربه وعلى طرف من الكنبة الخشبية العتيقة : هذا حفيد علي الجميل ، فيفرح الجواهري فرحا كبيرا ويغدو جذلا ويسألني عن دراستي وهواياتي ولكن حافظ لم يتركه على سجيته . وكان جدي الاستاذ علي الجميل ( المصلح والكاتب العراقي المعروف المتوفي في العام 1928 ) قد اسدى للجواهري خدمة عابرة بتدخله الشخصي مع ساطع الحصري ابان العشرينيات بصدد المشكلة التي احدثتها افكار قصيدة للجواهري عندما كان معلما في المعارف وحاربه الحصري حربا لا معنى لها تحت ذرائع واهية منها اتهامه بالشعوبية ومدح ايران !
انفض القوم من جلستهم على مهل وبعد قرابة اربع ساعات ، ففي الساعة الواحدة ظهرا كان كل من المجتمعين ينتظر سيارة لتقله الى بيته اذ حان وقت الغداء .. واذكر ان الجواهري خرج بعد ان حيانا باصابعة الطويلة وكوفيته ذات الالوان المبهرجة وعبر على الجانب الاخر من شارع الرشيد ووقف ينتظر سائقه وترقبته حتى ذهب بعد ان توقّفت السيارة فجلس الى جانب سائقه وانطلق نحو بيته .
واخيرا
اعتقد ان محمد مهدي الجواهري سيبقى علامة بارزة في تاريخ الادب العربي .. وسيبقى آخر سلاسل شعراء العربية للشعر الكلاسيكي وهو مسك ختام تاريخهم المزدهر .. ان شعره سيبقى خالدا وستنسى مواقفه المضطربة .. ولقد قرأت مذكراته المهمة خلسة بعد كانت ممنوعة في العراق ايام الحكم السابق واستفدت منها في تقييم الرجل لزعماء ومثقفين عراقيين ظلمهم قدرهم وظلمهم شعبهم .. ولكنني اقف دوما امام شعر الرجل ونثره وقفة مطولة اذ انه صاحب معاني خصبة لها بداية ولكن ليس لها أي نهاية ..
فصلة من كتاب سّيار الجميل : زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ ( نشر على حلقات وسينشر كاملا حال اكتماله ) .
www.sayyaraljamil.com