لم اقل كل الذي عندي في برنامج بانوراما الذي كنت ضيفا عليه في قناة ابو ظبي الفضائية مساء يوم 22 يوليو 2006 ، وخصوصا في كل الذي قاله الصديقان علي فياض وجورج ناصيف .. فالمسألة اللبنانية اليوم لا تعالج بالشعارات ولا بالامجاد ولا بالمفاخر واعلان الانتصارات ولا بالسباب والشتائم .. ولا بالثرثرة والاسهاب ، فالعبرة بالنتائج خصوصا واننا نحن العرب لم نفق حتى اليوم من هول صدمة الحرب الاليمة التي فوجئنا بها جميعا ..
السؤال الحقيقي اليوم : من ينقذ لبنان من ورطة هذه الحرب اللئيمة ؟ هل ينفع ما يسود اليوم من خطابات وشعارات يطلقها اولئك الذين لا يفهمون ما الحرب ، ولا يدركون نتائجها ، ولا يفقهون تداعياتها . اننا تسبقنا عواطفنا من دون ان نفعل شيئا ذا بال ولكن بعد تلاشيها وبعد وضع اوزارها ننتبه الى هول النتائج التي نحصدها ؟ لا يمكننا ابدا ان نحكم على هذه الحرب من خلال افتراضنا لانتصارات وهمية بقدر ما ينبغي معرفته من الاهداف الحقيقية التي يسعى اليها العدوان الاسرائيلي الغاشم بمثل هذا الحجم من القسوة على لبنان واللبنانيين ؟
لقد تنوعت صراعاتنا العربية ضد اسرائيل على امتداد اكثر من خمسين سنة .. وفي كل حرب نخوضها لا نحتكم للعقل والمنطق حتى تحل بنا الفجائع والكوارث فنضرب يدا بيد ونعترف بالهزائم ولكن بعد فوات الاوان .. وفي كل مرة تكون الاثمان غالية جدا .. وفي كل مرة تكون تداعيات هزائمنا لا اول لها ولا آخر .. بل حتى التاريخ نزيّفه كي نرضي عواطفنا ومشاعرنا الجياشة . السؤال الان : ما معنى هذه الحرب وما معنى تلك الفجائع ؟
لقد كان اغتيال ولي عهد النمسا سببا مباشرا لاندلاع الحرب العالمية الاولى التي ذهب ضحيتها الالاف من البشر ، ولكن الاسباب الفعلية كانت وصول حالة الصدام والاحتقان بين قوى الصراع الى الدرجة التي جعلت حدثا بسيطا سببا لاشتعال الشرارة وبقائها اربع سنوات نتج عنها ولادة نظام دولي وتقسيم العالم ! فهل يمكن ان يدرك السذج بأن اسر جنديين اسرائيليين كان مجرد قدح زناد .. ليس اّلا . كي يصبح لبنان ساحة لتصفية حسابات قوى اقليمية وعربية واسلامية جعلت من لبنان سنّارة تصطاد بها في بركة مياه عكرة لا نعرف من يتحرك داخلها ! خصوصا عندما نعلم بأن الصراع ضد اسرائيل قد انتقل تاريخيا من صراع عربي صهيوني الى صراع فلسطيني اسرائيلي الى صراع اسلامي يهودي واخيرا صراع اوليغاري اقليمي ..
جاءت حرب لبنان اليوم لبدء مشروع جديد ربما لم يتضّح بعد ، ولكنه بالتأكيد سيعيد ترتيب الاوراق على الطاولة من جديد .. وهي الحرب التي سيدفع كل اللبنانيين ثمنها القاسي ، ستستفيد منها دول في الاقليم على نحو معين .. وسيعاد توزيع الادوار من جديد على ركائز جديدة وضمن متغيرات جديدة تصلح على امتداد اربع سنوات قادمة .. انني كما كنت قد اعلنت سابقا ضد هذه الحرب اللعينة وضد توقيتها وضد ترتيباتها وضد مبررات اصحابها .. ولكنني اعترف ـ والحق يقال ـ بأن جند حزب الله قد ابلوا بلاء حسنا في المعركة عند الحدود ومقاومتهم البطولية عند قريتي مروحين ومارون الراس .. ولكن الى متى سيواجه هؤلاء العّزل من اية حماية جوية او أي خطوط رجعة او أي حماية في الوراء ؟ ما نفع الانفاق التي يختبئون فيها .. والتي كشفتها اسرائيل والتي تعمل الان على تفجيرها بمن فيها ؟ وهذا انتحار حقيقي نخشى على الناس الابرياء من قسوة العدوان من دون أي نتائج .. ان حرب لبنان اليوم ستبقى مشتعلة لزمن معين لا تفعل الامم المتحدة شيئا ازاءها ولقد مضى قرابة اسبوعين من دون ان يصدر أي قرار دولي من الامم المتحدة او مجلس الامن على غرار ما يحدث في حروب اخرى ! مشكلتنا اليوم معقدة جدا .
انني اقرأ الوضع الداخلي اللبناني المتماسك بمواجهة العدوان الغاشم والذي يعّبر عن وطنية عالية ومشاعر سخية من التآلف والمشاركة الحقيقية ولكنني اتابع جملة من المقالات التي كتبها كتاب من الاخوة اللبنانيين منذ اندلاع الحرب حتى هذه اللحظة ، فوجدت تفاوتا في الرأي بين ثلاثة مستويات : رأي راح يؤيد حزب الله في الخفاء والعلن عما فعله ضد اسرائيل مسببا هذه الحرب وقابلا تبريراته ، باعتبارها حربا اسرائيلية ضد لبنان والعروبة والاسلام .. ويتوجب الاصطفاف للمقاومة ضد اسرائيل .. ورأي راح يرفض كل حزب الله وما فعله جملة وتفصيلا .. بل ذهب هذا الرأي ليحاسب حزب الله على ما اقترفه بحق لبنان .. ورأي ثالث ضائع بين الطريقين ولا يعرف ماذا يقول ؟ وبقي يلوك الكلام ولا يعّبر عن رأيه الصريح بشجاعة كي لا يحسب على اللا شرعية او لا يحسب عميلا للصهيونية !
أتمنى ان تنتهي هذه الحرب بأسرع ما يمكن كي يتخلص لبنان من مواجهته قساوتها وان لا تمتد تداعيات الحرب الى كل المنطقة .. اذ اخشى على لبنان من الانقسام واخشى عليه الا يصبح كالعراق ! واتمنى ان يكون للولايات المتحدة دورها في ايقاف الحرب التي ستكلف المنطقة كثيرا .. وان ترفع دول الاقليم يدها عن لبنان .. وعلى كل من يؤيد هذه الحرب ان يتوقف عن التصفيق لهذا السعير المدمّر .. والتوقف عن حالتين من التناقض : هوس العظمة والمفاخرات ولغة الردح والشتائم .. فالكل مبحرون نحو المجهول الصعب ، فاذا لم نكن عقلاء في صنع لحظة تاريخية مشتركة ، فكيف بنا سنواجه جميعا مصائرنا القادمة ؟
البيان 26 يوليو 2006
Check Also
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …