يحتشد الجيل المقبل في المدارس والجامعات اليوم بشكل لم يألفه مجتمعنا العربي من قبل وخصوصاً بحجمه الديمغرافي الكبير وحجم متطلباته الأساسية وسعة أبعاده.. وسيواجه الحياة بعد قرابة عشر سنوات ، وسيندفع للبحث عن فرص للعمل والمعيشة الكريمة وسيواجه تحديات داخلية تتفاقم مخاطرها يوماً بعد يوم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. وعليه، فثمة مهمات أساسية وعملية لابد من الوعي بها في تكوين هذا الجيل بعيداً عن كل الترسبات والبقايا والمألوفات والخطايا التي ما زالت سائدة حتى اليوم في التربويات المدرسية وفي المناهج الجامعية.. فما الذي يمكنني قوله في هذا المجال ؟
1ـ إن الضعف الذي نشهده في مستويات التعليم الجامعي لدى طلبتنا هو حصيلة التكوين السيئ في رياض الأطفال والمدارس الابتدائية والثانوية، فكل المناهج التربوية المدرسية العربية لا تعتني أساساً ببناء شخصية التلاميذ منذ صغرهم، بل انها تعودهم على التلقين وحشو المعلومات حشواً متعمداً، وإنها لا تدربهم على المهارات العملية والتفكير الجاد في القراءات، بل تعمد إلى محو شخصيتهم من خلال إلغائها مستلزمات البحث عن فرص الإبداع والامكانات لدى الناشئة، كما أنها لم تعتن بتربيتهم لغوياً ولا بتنمية تفكيرهم وتوعية قدراتهم في الحياة.. إنها تقهرهم وتكبتهم وتضطهدهم وتمحي شخصياتهم من خلال سلطة نصوص متنوعة تلزمهم بحفظها على ظهر قلب من دون الوعي بمعانيها!
2ـ هكذا يأتي التلاميذ إلى المعاهد والجامعات كطلبة علم، ولكنهم لا يفقهون مغزى المعرفة وجدوى تأهيلهم للمستقبل ، إذ لم يألفوا إلا اجتياز الامتحانات .. وبدلا من أن تكون الجامعة من أخصب سنوات حياتهم، غدت أشبه بمدرسة عادية لا تصقل شخصيتهم ولا تؤسس فيهم أصول منهج أو أسلوب حياة ومنطق تفكير وروعة تخصص .. يأتون إلى الجامعات وقد حصلوا على معدلات عالية جداً في التوجيهي (= الباكالوريا) وهم لم يبلغوا أي شأن من التكوين الأساسي واللغوي والثقافة العامة .. وأنهم يعجزون عن تركيب جملة مفيدة شفاها وتحريريا ..
3ـ يتوزع الطلبة على الأقسام العلمية وقد ألفوا الحياة المدرسية التي يفترض أن تتغير ليس عندهم فحسب، بل عند المسئولين في الجامعات من إدارات وهيئات أكاديمية إلى حياة جامعية علمية أكاديمية حقيقية… ولكن مع الأسف غدت جامعاتنا تحت وطأة سيادة المألوف من الطرق الشائعة، وتدفق الأعداد الهائلة من الطلبة عليها، وضعف مؤهلات بعض من أعضاء الهيئات التدريسية وإقصاء المبدعين من الأساتذة وعوامل مفجعة أخرى أضرت كثيراً بتأهيل الجيل الجديد في دنيانا العربية .
ثمة معالجات أساسية لابد منها وتتلخص بانشاء قاعدة قوية من أمن المعلومات في المؤسسات التربوية والتعليمية العربية من خلال الدعوة الصريحة والقوية لتأسيس منهج يضع مبادئ راسخة لمواكبة التقنيات المتقدمة في التربية والتعليم ( كالذي يجري في دولة متقدمة في هذا الميدان مثل كندا ) إبان هذه المرحلة التاريخية الجديدة من عمر البشرية. وهو منهج يربي التلاميذ الاعتماد على النفس في المدارس ومن خلال الأسس العامة ، وليتعّلم الطلبة في الجامعات كيفيات التجديد في المعاني والأشياء. والتخلص من التعليم العادي المقنن الذي يمارس اليوم للملايين من الأطفال والشباب العرب.
وهنا، سيكمن هدف العمليات التعليمية الحرة الجديدة من خلال مخرجاتها التي ستثري حياة الجماعات والمجتمعات بأنواع جديدة من الخريجين المبدعين الذي لا ينتظرون من الدول والحكومات الإعانات والمنح كونهم عالة عليها، كما يحدث اليوم مع خريجي المعاهد والجامعات إذ أصبحوا عبئاً على السوق، وسيكون الفرق كبيرا بين رصيد المبدعين والمتميزين وبين عبء ركام الخريجين التقليديين والخاوين .. علماً بأن الحاجة باتت ماسة لمهارات الجيل الجديد في دول تزخر بالأنشطة السكانية الفعالة والقوى الحيوية..
إن بناء الشخصية الحرة وصناعة التميز القوي وتكوين المبدعين وتخريج المخترعين في أيامنا هذه حاجة أساسية أمام الأجيال الحية على امتداد القرن. ناهيكم عن المطالبة عربياً بتأسيس جملة مبادئ لمواكبة التقنيات المتقدمة، وخصوصاً من خلال وسائل الاتصالات والانترنت والدوائر التلفزيونية المنفتحة وليست المغلقة بشكل خاص. وكيفية تحقيق حياة مثلى ذات معنى بامتلاكهم تفكير جديد، وتمكنهم من ثقافة موسوعية أو متخصصة، وسيطرتهم على مهاراتهم من اجل توظيفها.. وكفى التعويل على الدولة في توفير فرص العمل.
بات مجتمعاتنا بأمس الحاجة لتأسيس بنى فوقية متميزة بتفكير براغماتي مهاراتي وليس تمرير مجرد أفكار تجريدية ونظرية ومطلقات من المألوفات التقليدية التي تزود في القاعات ضمن قوالب ميتة لا حياة فيها! وهكذا، فان المطالبة بمثقفين حقيقيين من اجل تكوين نخب فاعلة في مجتمع لا يستطيع احد أن يضلله ولا يخذله أو يضحك عليه كما كان يجري في القرن العشرين الذي كان مزدحماً بمحترفي الإيديولوجيات والأكاذيب والشعوذات والغوغائية والتدليسات والشعارات الميكافيلية والالتباسات والمطلقات .. الخ جيل جديد قادر أن يبدع ويقدم جماليات المكان وروعة البنية وحلاوة التراث وخصب الفولكلوريات وزهو الألبسة وانتعاش الألوان.. والاستمتاع بذلك كله!
وأختتم ندائي لأقول: أريد أناسا يقدرون معجزة الحياة العربية وعجائب الحضارة.. أريد اناساً لديهم المعرفة والرؤية والحرية والحكمة والمنطق والتفكير النسبي لبناء المستقبل بدلاً من ان يكونوا ضحايا للمستقبل الذي تختاره لهم السلطات التقليدية والاجتماعية تحت مسميات نوازع ومواريث شتى . أريد اناساً لهم القدرة العجيبة على وزن الأمور وايجاد الحلول بعيداً عن الأخيلة والأوهام وزرع العنف والكراهية والرعب . أريد اناساً مؤهلين للمشاركة في حكوماتهم ومؤسساتهم كونهم يدركون معنى الحياة المدنية. أريد اناساً يعرفون كيف يتحاورون.. وكيف يفكرون.. وكيف يتساءلون ويجيبون. أريد أناساً يقدسون الزمن وساعات العمل.. أريد أناساً يفهمون قيمة العمل ويتذوقون حلاوة ما ينجزون .. وعندما ينتهون يسمعون الموسيقي ورواية القصص بحثاً عن المغامرة والجمالية والحقيقة. أناس عندما يضعون أدواتهم أرضاً لآخر مرة، يستطيعون النظر الي ثمار عملهم وجهدهم قائلين ما أروعها !
البيان الاماراتية 14 يونيو 2006
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …