كنت اعجب جدا بثقافة الفنانين العرب القدماء ، وبالرغم من ذلك كانوا يتحرّجون جدا في الخروج على الناس اعلاميا ! وكم اسعد أن أجد فنانين عرب لهم ثقافتهم العريضة ، ولكن هيهات ان اجد مثل اولئك وهؤلاء اليوم .. أصبح الجميع يقّدم نفسه على عجل وهو هزيل في ثقافته ومعلوماته وضعيف في امكانياته العليا ، ولا يفّكر قبل المجازفة ، ولا يدرك ما الذي يعنيه وهو يخاطب الملايين من الناس . إن الذي أريد طرحه يكمن أساسا في معالجة مسئلة مهمّة من حياتنا ونحن نرقب استحواذ فنانين لساعات طوال على المرئيات ، وهم يشغلون بال ملايين الشباب ، ولكنهم في حالة يرثى لها ، اذ يبدو اغلبهم هشا ضعيفا وهزيلا لا يعرف من قضايا العصر شيئا ، بل ولم يدرك بوعيه المبسّط حتى قضايا أمته وابسط تواريخها ومعلوماتها الجغرافية ومشاكلها وتعقيداتها الصعبة أو حتى جزءا من تراثها وأدبها . واخطر ما في الأمر ، أن تعالج قضايا حيوية بأسلوب هزلي ساخر من اجل إضحاك الناس وتسليتهم وليس الوصول إلى حقائق الأشياء من خلال هوامش للحريات التي سمحت بها بعض القنوات التلفزيونية ووسائل الاعلام المعروفة .
وكم تمنيت على هؤلاء أن يبقوا محتفظين بأدوارهم الفنية الرائعة بدل أن يعرّضوا أنفسهم لمواقف هزيلة ليس لهم باع ثقافي قوي فيها وليس لهم ” معرفة ” تمد في عطائهم لخدمة أهدافهم النبيلة ، والمشكلة انهم يشغلون الحيز الكبير من وسائل الإعلام العربية ، فهناك برامج كاملة تخصص لهم على مدى ساعات طوال ليس لهم فيها إلا استعراض أمجادهم وتقديس ذواتهم وتقديم رقصاتهم .. فضلا عن ركام من الصفحات في الجرائد والمجلات التي تخصص لهم ولصورهم وحواراتهم .. ربما استجابة لما يتلهف إليه الشباب العرب ، ولا مشكلة هنا ان كانوا يحملون زادا ثقافيا خصبا ، ولكن المشكلة أكبر وأخطر !
ونسأل : هل أراد الفنان العربي ان يكون ملتزما بمعالجة قضايا الأمة ، وهو ينشر غسيلا عربيا على الملأ ، ليقول ها هي ذي ثقافتي الضحلة خذوها وتأملوا فيها ؟ وهل له القدرة أن يحدثّنا كلاما سليما إذا ما ابتعد عن النص الفني الذي تقيد به طوال حياته ، وان خرج على النص المرسوم ، يبدو تافها لا قيمة له ، فكيف به إذا ما واجه أسئلة ثقافية عامة وليست متخصصة دقيقة ؟؟ وكيف تقحم جملة موضوعات سياسية واجتماعية وثقافية وفكرية خطيرة لكي يتخبط هذا وذاك من الفنانين فيها ! وهكذا بالنسبة لقضية ” نحن والغرب ” التي أصبحت مدعاة لاستعراض العضلات ! وهكذا ، بالنسبة لموضوعات خطيرة قد أسيء استخدامها وتوظيف كلام فضفاض أو خاطئ فيها .. سينعكس بالضرورة على من يشاهد تلك القنوات ، واستخدام مكّسر لمصطلحات بالإنكليزية او الفرنسية لا يعرفون ما تعنيه بالعربية ! وهي عبارات تثير الاشمئزاز عندما تقحم على الالسن باسلوب خاطئ .. والتهريج من قبل فنانين عرب آخرين لا يعرفون قدر انفسهم ، والمشكلة انهم يجدون استقبالا رسميا وشعبيا ملفت للنظر يجعلهم يصدقون انفسهم فيزداد استعراض عضلاتهم على الناس والواقع !
لقد تخطّت بعض القنوات الفضائية كل الحدود اللائقة من خلال ضيوفها التي تسخو عليهم سفرا واقامة ومكافئة ليمارسوا دورا غبيا ومتخلفا فيها .. ربما يقول البعض إنها طريقة مباشرة وعفوية ، ولكن نحن لا نتكلم مع بعضنا في جلسة سمر خاصة ، بل نتكلم في برامج استعراضية وميدانية ومباشرة وهي تتلبس بثقافة أو سياسة تذاع على الملايين من الناس ، ويشاهدها ويتابعها جيل جديد نطمح أن يترّبى تربية معرفية وواقعية ومستقبلية ومدنية سليمة وبكل حكمة ولياقة .. والمفترض في المبدعين والفنانين ان يكون لهم اسلوبهم العالي من الاداب والعلاقات ورونق الحديث واثراء المجتمع ..
أن البعض قد زاد من سيئاته ونكاته السمجة وتعابيره الخاوية ! أما أخريات ، فبلغن شأوا كبيرا في المبالغة ونفخ الذات وتوزيع الأحكام وكأن الاعلام المرئي قد نصّبها على هرم الثقافة العربية .. إنها مشكلة عصيّة في مجتمعاتنا التي يختلط فيها الحابل بالنابل ، فلماذا نعطي للأدعياء والمهووسين والجهلاء فرصة للضحك على أنفسنا ؟ وقهقهاتهم انفسهم إن قدّم أحدهم نكتة باهتة أو تعليقا بائسا! ولا ندري ما معنى أن يصفق بعضهم على طروحات الفنانين الخاطئة ! انني اناشد كل القيمّين على الاعلام المرئي بالذات ان يدقق في هذا المجال وان يتقّبل هذه النقدات بصدر رحب ويعمل على إحداث نقلة نوعية في هذه المسألة ؟ ويتوقف عن استضافة أصحاب الثقافة الضحلة .. والسؤال : هل غدا ميدان الثقافة العربية حكرا على الفنانين من ممثلين ومطربين وراقصين ؟
وكم كنت أتمنى اجتياز الخطوط الحمراء العربية في نقد حالات عقيمة متنوعة ولكن بأسلوب حر ومعبر وغير مباشر وعلى مستوى من الجدية من قبل مثقفين مبدعين ومتخصصّين عرب حقيقيين حتى يكون لها وقعها معا عند كافة المسؤولين والمواطنين .. ودعوة متواضعة لنا في أن نحترم تخصصاتنا وتواريخنا الشخصية .. وان يحجم كل إنسان عربي حتى وان كان من المبدعين في الظهور على الملأ أن لم يجد في نفسه القدرة في الإجابة على ما يطرح عليه من قضايا حيوية وخطيرة أمام الناس .. ورحم الله أولئك الأوائل من الفنانين النهضويين المبدعين الذين لم يجازفوا أو يغامروا بأي كلام على الرغم من ثقافتهم القوية راجين أن تكون مقالتنا رسالة وفية ونزيهة من اجل تقويم الأخطاء والعمل على تلافيها لما فيه مصلحة الأجيال الجديدة الواعية في المستقبل .
البيان الاماراتية ، 17 مايو 2006
Check Also
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …