– لا احبه يا امي. لماذا تغصبيني على الزواج به؟
– الى متى ستنتظرين بلا زواج… لقد تخطيت الثلاثين وما زلت ترفضين كل متقدم للزواج بك… لماذا تخافين الزواج؟… هل ارتكبت خطيئة في علاقتك مع بولس ام ماذا؟
– بولس اشرف انسان عرفته يا امي… لاتظلميه بحق السماء… دعيني وشأني يا امرأة… لم اعد طفلة لتقيديني… دعيني وشاني… دعيني.
اسرعت مادلين الى سحب حقيبتها وبعض الملابس من الجرار وغادرت البيت غير عابئة هذه المرة بصراخات امها الغاضبة. تركت لاقدامها الحرية لتجري دون ان تقيدها بوجهة معينة او مركز ما. فقد شعرت برغبة عاصفة تقودها للتحرر من قيود اهلها ، بعدالاهانة التي الحقتها امها بحبيبها بولس وبها.
– بولس حبيبي، ساترك يدي في يديك هذه المرة ولن اسحبها… لست عابئة بأمي او أهلي… لقد كبرت وتحررت منهم الى الابد… خذني الى حيث تشاء يا قدري.
كانت مادلين مساقة بذكرياتها .. تجري مسرعة… تتذكر وتتحدث الى نفسها، حتى يخال الى ناظرها بانها مجنونة أوهاربة من مستشفى المجانين.
– انت مقيدة يا حبيبتي… مقيدة بالعادات والتقاليد القديمة… مقيدة بالافكار البالية . اريدك ان تتحرري.
– لا استطيع ان اعيش سعيدة واهلي غاضبون علي يا حبيبي… ارجوك ان تفهمني. ابي يرفض زواجنا لاننا ننتمي الى كنيستين مختلفتين. امي ترفض لانك تنتمي الى حزب لا يعرف الله. لماذا لا تنتمي الى كنيستنا وتتحرر من الحزب الى ان نتزوج ثم تعود اليهما.
– لاني حر.. والحرية تعني التحرر من العبودية يا حبيبتي… كما انها تعني المسؤولية… لا استطيع ان اخدع الناس بما لا اؤمن به. بالنسبة للكنيسة، نعم لست بالناسك، ولكني لا اجد سببا مقنعا لحجة ابيك لاحل ارتباطي بكنيسة وارتبط باخرى. اما عن الحزب، فلا اجد سببا معقولا لحجة امك بربطه بالايمان بالله… انا ارتبط بحزب علماني لا يتدخل في شؤون الله. اسمعي، لقد جاءتني منحة دراسية من الحزب في روسيا… وفكرت ان اخطفك لنتزوج سرا ونسافر اليها، بهذا سنضع اهلك امام الامر الواقع ، ثم نعود ونصالحهم بعد ان تهدأ الامور.
– انت مجنون.
– انا عاشق ومظلوم. مادلين، أنظري في عيني… أتحبيني كما احبك؟
لم تستطع ان تطيل النظر في عيني بولس المشتعلة حبا وعشقا. ارتمت في احضانه واخذت تبكي وتقبل صدر وعنقه، كطفل لايدري كيف يفسر خلجاته بالكلمات.
– اتشك في حبي لك يا بولس.
– ابدا ياحبيبتي… ولكني احسك بعيدة عني ومترددة احيانا.
– انا حائرة وخائفة من العواقب… لا ادري ماذا افعل.
– لا عليك… افعلي ما يريحك. لن اجبرك على اتخاذ قرار لا ترغبين به… يكفيك ما تكبلك من قيود يا حياتي.
نعم، من اجلها لم يسافر بولس للدراسة… بقي قربها، عسى ان تتغير الظروف الى الافضل او تتحرر حبيبته منها، لكن الايام لم تمهله طويلا، فقد اشتدت النزاعات بين حزبه والحزب الحاكم، وبدأت السلطات المحلية تطارد الموالين لحزبه في كل مكان، فكان نصيب بولس، القاء القبض عليه وزجه في احد السجون الفاشية.
جنت مادلين، عندما سمعت بالخبر وتوسلت الى اهلها لمساعدتها في الاستفسار والاتصال به، الا ان مشاعر الرعب والخوف التي فرضتها السلطة في الوسط، جعلهم يفرضون عليها قيود اقسى من سوابقها خوفا على ابنتهم. تخلص الاب وبسرعة من جميع التزاماته وتحول بعائلته الى مدينة اخرى عسى، ان يبعد شر البلية عنها. عاشت مادلين في جحيم مع ذكرياتها، بعيدة باخبارها عن بولس، كما عاش هو، الى ان نزلت عليها الصاعقة لتختال املها في الالتقاء به ولو لثواني… فبعد خمس سنوات من العذاب، تم تنفيذ قرار الاعدام بحبيبها.
حاول الاهل ابعاد مشاعر الحزن واليأس عن ابنتهم بارسالها لزيارة الاقرباء خارج الوطن، عسى ان تقرر البقاء في احدى هذه الدول، ولكنها كانت تعود اليهم دائما. اخيرا، تقرر اجبارها على الزواج والاستقرار مع احد أقربائها، الذي تقدم لخطبتها. وافقت في البداية، مرغمة، كونها تحت تهديدات وتأنيب امها وابيها، وقد تخطت السن القانونية للزواج ولكن، ومع اقتراب موعد الزواج، وجدت نفسها تثور شيئا فشيئا على القيود التي تجبرها على خيانة حبيبها بولس.
توقفت الذكريات وتوقفت معها قدماها عن الحركة. اخذت مادلين تجول بنظرها في مكان باصات حمل الركاب. سمعت احد السواق ينادي” نفر واحد الى موصل… نفر واحد موصل”. اتجهت الى الباص ودفعت بجسدها المتعب ليرتاح في المقعد الخالي . لا تدري لما استقلت الباص الى موصل بالذات ولا ماذا ينتظرها هنالك، ولكنها شعرت بالراحة لقرارها هذا. بوصولها الى موصل، استقلت سيارة تاكسي واخذت تطلب من السائق ان يوصلها الى اماكن عديدة، لم تنزل فيها، ولكنها كانت تجول في اروقتها بعينيها المغروقتين بالدموع، حتى قالت له اخيرا” خذني الى المقابر ارجوك”!!!.
نزلت من السيارة واخذت تتجول بين القبور تقرأ الاسماء. رفعت عينيها الى البعيد، لتشاهد عجوز منحنية على احداها، تبكي الساكن. شعرت بقدميها تقودها الى الاقتراب منها. اقتربت وتحولت بنظرها بين العجوز والقبر . قرأت اسم الساكن غير مصدقة ” بولس يوحنا”!!!.
– ام بولس!!!. انا مادلين.
رفعت ام بولس عينيها المثقلة بالاحزان الى مادلين وقالت لها:
– مادلين!!، لقد رجوته منذ يومين ان يجعلني اراك واحضن كنتي وحبيبة وحيدي الى صدري.
ارتمت مادلين في احضان ام بولس باكية، وقالت
– ها هو يلبي نداءك يا اماه. لقد امسك بيدي واوصلني اليك.
بعد يوم ارسلت رسالة الى امها ، تقول:” لن أعود اليك… لقد وجدت أمي!!.”
شاهد أيضاً
حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال
أطنب القدامى في الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في مختلف العصور وكشفوا النقاب عن الإكراهات …