” علاقة جورن واغنيثا المضطربة مزقت شملنا ”
آني فرد فريدا
ذكرى التوب رانك
كنت برفقة بعض الاصدقاء ونحن في طريقنا الى صالة التوب رانك في قلب مدينة ردنك غربي لندن ، وكانت صالة واسعة جدا تتسع للمئات .. دخلنا القاعة بعد ان كنا قد اشترينا التذاكر منذ يومين .. دخلنا وواجهنا لأول مرة كتل من الشباب والشابات يتراصون والباحة الوسطية حلبة متروكة للرقص .. على الجوانب طابق ثان يلتف حول سياجه اللامع المئات من الشباب . وفي العاشرة ليلا طلع فجأة على المسرح اعضاء الفرقة وسط تصفيق عارم وبدأت الموسيقى التي سرعان ما تعالت .. كان جورن حاملا غيتاره الشهير وهو يقف في اقصى يمين المسرح وعند اقصى اليسار كان بيني اندرسون يضرب على مجموعة ايقاعاته بشدة وفي الوسط وقفت اغنيثا الشقراء وبيدها دف بدأت تستخدمه رفقة العزف وهي تضرب به على ساقها الايمن .. ووقفت الى شمالها آني فرد فريدا بشعرها الاحمر .. انطلقت الفرقة العالمية آبا يغنون كل اغنياتهم الشهيرة ، وفجأة امتلأت الباحة وحلبة الرقص بالشباب يرقصون وشابات يرقصن .. كان ديكور توب رانك متميزا ، وكانت الاضوية الملونة تنطلق باشعاعاتها .. كنت أتأمل لا الحشود التي ملأت المكان الواسع ، بل كنت اتأمل اعضاء الفرقة واحدا واحدا .. وكنت اعلم تاريخهم وسيرتهم حتى ذلك الوقت .. ولكن لابد من وقفة نحلل فيها تاريخية الفرقة وسر نجاح فرقة من الفنانين السويديين نجاحا عالميا لا يبارى ابدا !
قصة انطلاق فرقة آبـــــا
انها قصة رائعة جدا لأثنين من النجوم السويديين أولهما من الروك ستار جورن .. وكان قصيرا هزيلا لكنه بمثابة راعي الفريق وكاتب الاغاني ويعد مفتاح كل اللعبة .. اما بيني فهو من الهبستار .. وعرفوا في مطلع الامر كفرقة الخنافس البيتلز في الهب ستار .. وأدى مسارهم الى نتائج غير مرضية ابدا وصفت بالتفاحة العفنة ! وعرفوا بالاسم ابا ABBA في اول ظهور مشترك لهم الاربعة .. كانت اغنيثا الشقراء في بداياتها العشرينية وقد اقترنت بزميلها جورن .. اما اني فريدا فكانت صديقة حميمة للرجل الثاني بيني اندرسون الذي كان قد ولد في النرويج الذي كان مغنيا قبل الانضمام حاله حال اغنيثا التي كانت قد انتجت عدة البومات بيعت بسرعة في السويد . لقد كان الاربعة في هذا الفريق قد حصلوا على سمعة لهم تؤهلهم لمثل هذا التشكيل الرائع والمتوازن .
ان الاثنان جورن وبيني اشتركان في كتابة اغنيات جيدة معا . وفي العام 1972 ، سجلا واحدة من تآليفهما والتي اصبحت معروفة جدا في اوساط امريكية عريضة ومن دون اي دعاية اعلانية .. وتلاقى الاثنان مع كل من آني فرد فريدا واغنيثا نظرا لما تمتعت به كلا من الاثنتين من جمال في الصوت ، وفجأة تنطلق اول اغنية مشتركة بقوة سريعة وتحلق في السماء وتغدو الفرقة بنجومها الاربع مبهرة للاسماع وبشكل جذاب يسحب البساط من تحت ارجل فرق وجماعات ومبدعين كانوا مشهورين جدا . فما قصة ولادة ذلك الانبهار ؟
هذا الرباعي الذي انطلق نجمه فجأة من دون تقدمة ولا دعايات دعي لتقديم اغنية من الاغاني السويدية للمضمون الاوربي ، وغدا السباق لصالح فوز السويد في العام 1973 في الرؤى الاوربية خصوصا وان مضمون الاغنية كان انسانيا .. وعلى اثر ذلك تسمّت الفرقة بـ ABBA وفجأة تبدع الفرقة اغنية وجدانية بالانكليزية ، وتتألق بوضوح ازاء بقية الفرق الفنية الاخرى في العالم .. لقد كانت تلك الاغنية بالنسبة للفرقة محكا وتأطيرا لها في آن واحد ، ولقد نجحت الفرقة في تقديم الموسيقى السويدية في اطار انكليزي رائع وبرؤية أوروبية براقة .. هكذا ولدت فرقة ابا ولادة طبيعية بعد ان اجتمع هؤلاء الاربعة الذين بدوا متجانسين ومتناغمين في سايكلوجيتهم الذاتية وفي جذورهم الثقافية وفي رؤاهم الاوربية وفي استخدام الانكليزية استخداما فنيا ماهرا .
نجوم ابا الساطعة تؤسس الرؤية الاوربية
بعد تلك الانطلاقة المتوهجة ، نجحت خطة الفرقة مرورا بسنة 1973 حتى 1974 وخصوصا بعد ان كان الفنانون الاربعة قد نجحوا في اجتياز التحدي الذي اثارته الضجة في السويد حول المهارات ولكن اتت النتيجة لصالحهم عندما اتفق على ان كل النهج الجديد كان كاملا بالنسبة للرؤية الاوربية ازاء خيار يمكن استخدامه في المستقبل . وهذا ما تحقق على ارض الواقع ، فالفرقة ابا هي اول من دشّن اذاعة تلك الرؤية الاوربية الموحدة وخصوصا بعد ابداعهم لاغنية ( واترلو ) في العام 1974 . لقد جسّدوا بهذا الحس التاريخي ما تقرر بعد واترلو المعركة الشهيرة التي انهت جبروت نابليون بونابرت على اوروبا العام 1815 ! لقد انتشرت اغنية واترلو في كل العالم لتقّدم رؤية اوربية موحدة منطلقة من برايتون بانكلترا .
انها حقا اغنية تاريخية وصلت الى القمة تزرع وازعا جديدا في الوجدان الاوربي مقارنة بالرومانسية السائدة خصوصا وانها تذكّر وتحكي قصة هزيمة نابليون في اشهر معركة تاريخية .. وفي تقديمها من قبل محكّمين دوليين بعد ان اظهرت الاوركسترا دور الفرقة التي قادت بتميّز حركات الصوت وقد لبسوا القبعات النابليونية . ان واترلو لمفردة غنائية انتشرت حول كل العالم انتشارا خارقا وغدت واحدة من اشهر عشر اغاني في امريكا ايضا التي كانت تترقب تجسيد هذه الفرقة للرؤية الجديدة .. كنت احفظ كلمات الاغنية على ظهر قلب منذ انطلاقها ، وعندما حضرت حفل التوب رانك في العام 1977 تجّسدت الاغنية امامي على لسان الفرقة وكنت اقول لنفسي بعد ان احادث هواجسها : هل نجح العرب في تأسيس رؤية تاريخية لهم بعد ان كانت لهم عناصرهم ووسائلهم ورموز فنية عالية المستوى !؟
والحقيقة التي يستوجب قولها عن آبا بأن للبريطانيين دور كبير في صناعة هذا الطيف ، اذ ما كان ليفوز هذا النجم ويعلن عن سطوعه الا من خلال البريطانيين الذين كانوا يريدون ملىء الفراغ الذي احدثه انسحاب البيتلز ( = الخنافس ) من الساحة الفنية . كانت الارضية صالحة للتطورات الحاصلة في اغناء الفن الشعبي ، وكانت الموجة تنتقل من مكان الى آخر من غربي اوروبا . فقبل ذلك كانت آبا غير مشهورة ولا معروفة ، وفجأة يخترق هؤلاء الاربعة الحواجز ويحققون نجاحا لا يمكن وصفه !
فضاء آبا الابداعي العالمي
في العام 1975 ، عادت الفرقة الى بريطانيا وكانت قد ابدعت اغنية S.O.S والتي ادخلتهم ثانية فضاء العالمية وخصوصا في المانيا الغربية وأستراليا وغدت من العشرين في امريكا ، وكانت مبيعاتها تنفذ بسرعة خيالية واشبعت آبا رغبة كل العالم . وبين ديسمبر 1975 وفبراير 1978 سبعة اغاني لها كانت قد طرحت في بريطانيا ، ولكن لم يعط اعضاء الفرقة الا وقتا قصيرا جدا للاعلام بسب انشغالاتهم وطيرانهم حول العالم كله للمهرجانات والحفلات الخاصة والعامة .. لقد بقيت معظم اعمالهم حية ومتميزة على مدى سنوات ويتلهف لها الملايين من الناس ، وقد سجلت درجة تلهف الملايين للفرقة بشكل مثير في كل من بريطانيا والسويد وسويسرا والنمسا ونيوزيلاند ومعظم اجزاء الولايات المتحدة الامريكية .. وبدأت هناك جماعات تقلد نصوص آبا وخصوصا اغنية مثل ( ماما ميه ) و ( فيرناندو ) و ( جوبر ) وعندما كنت اعيش في بريطانيا اشّرت آبا اعظم اعمالها الحية بالدرجة الاولى وخصوصا خلال ما عرضته في قاعة البرت هول الملكية .. وفسّر ذلك النجاح بأن اغاني آبا هي الاعظم ميزة لحنية والاقرب الى الشعبية .
النهاية محزنة
لقد كانت العلاقات الشخصية بين اعضاء الفريق وراء تفككه ، وكما سجل البيتلز نهايتهم الجماعية الفنية سجلت آبا نهايتها الفنية التي آلمت الملايين واحزنتهم ، ولم يزل عشاق الفرقة يتابعون اخبار اولئك الاربعة التي حلقوا في السماء بتوهج ، ثم انطفأ وهجهم ليس بسبب ظهور من ملأ الفراغ ، بل بسبب انفصال جورن عن زوجته الشقراء اغنيثا التي كانت ولم تزل تحبه حبا جما وبعد عودتهما ثم انفصالهما ، فان كان كل من فريدا وبوني يعيشان معا لعدة سنوات اصدقاء وعندما تزوجا اصبحت الفرقة تتكون من زوجين وزوجتين .. ان ما اسعد العالم بزواج فريدا وبوني احزن الملايين بعد فترة زمنية قصيرة انفصال جورن عن اغنيثا .. فتبدد شمل ذلك الفريق اللامع لاسباب عاطفية ليس الا وانطفأ لمعانه كالعادة .. لقد بقيت اتابع اخبار عناصر ذلك الفريق ، وان آخر ما سمعته عن اغنيثا حياتها البائسة اليوم .. في حين تفرغت فريدا للاعمال الخيرية .. وهدوء اندرسون ولم يزل جورن متمردا من دون ان يحس الالام التي تكابدها اغنيثا !
عن كتاب : نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية لمؤلفه سّيار الجميل