لا اريد ان اكون قاسيا في مكاشفاتي اليوم لمواقف وادوار وخطابات ومقالات ونصوص كثرة من المثقفين العراقيين الذين يعلنون عكس ما يخفون .. كنت اتمنى ان تبقى البقية الباقية من المبادئ الوطنية والقيم العراقية التي تربينا عليها راسخة في الاعماق ، ولكن هذه وتلك قد ذهبت هباء منثورا مع الريح الصفراء ! لا اعتقد ان أي مثقف عراقي ، او كلّ المثقفين العراقيين اليوم قد بقوا على ثقافتهم التخصصية ، او مجالاتهم الابداعية ، او حقولهم المهنية فيها ، اذ غدا كل واحد يتكلم في ” السياسة “اسوة بغيره من العراقيين.. ولا حرج فالمثقف لابد ان يكون له دوره قبل غيره ، فهو طليعة المجتمع ، ولكنه ان اختار طريقا غير سوي في التعبير عما يريده الواقع لا عما يريده العقل ، فان علامات استفهام اضعها امام كل المثقفين العراقيين الذين لا يمكنهم الا ان يعترفوا بالتفسخ الذي يعيشه واقع العراق والعراقيين منذ سنين خلت ! انا لا يهمني ان كان المثقفون سواء في داخل العراق ام خارجه يختلفون وتتباين افكارهم ومواقفهم وادوارهم .. ولكن يهمني جدا ما الذي جعل قطاعات نخبوية وفئوية مثقفة ، كبيرة وتاريخية في حياة مجتمعنا العريق تتحول عن منطلقاتها المدنية وتفكيرها السياسي ومبادئها التقدمية .. انه يهمني جدا ان اجد مثقفا كان تقدمي الفكر في يوم من الايام ، وجاء اليوم ليسبح بحمد الواقع الجديد بعيدا عن العقل .. ويهمني جدا ان آخرا من الليبراليين قد رضي بواقع متخلف يعتقد انه مشبّع بالديمقراطية .. ويهمني مثقف آخر غدا يعتقد ان الارادة الشعبية قد اختارت برنامجا سياسيا او تحديثيا ولم تختر عمامة او منبرا او مرجعية !! ويهمني جدا من لم يزل يؤمن بايديولوجيات شوفينية او ماركسية كالتي تعلمها من القرن العشرين وهو يحلم اليوم بعودة البطل القومي او الرئيس القائد بعد كل هذه التحولات المريرة !! ولكن ما يفجع حقا ان اجد مثقفين عراقيين بدأوا ينادون بتقسيم العراق جهارا نهارا خلاصا من هذا الواقع المر !! وكل من هذه الادوار من يعطي لك مبرراته ومسوغاته للخروج من الازمة وكأن مشكلات العراق ستحل هكذا بسهولة على حساب اختزال الزمن وتمزيق الجغرافية وعودة الماضي الكسيح .. لا اريد ان احكي لكم عن حالة الانقسامات السياسية التي يعّبر عنها هؤلاء ليس بسبب تباين برامج سياسية او حتى شعارات ايديولوجية ، بل انها تعّبر عن مشاعر تحكمها مرجعيات خفية كلها تتبارى في عشق الوطن والحديث عن الوطن والموت في سبيل الوطن .. اصبحت تهمة الطائفية رائجة حتى على ألسن المثقفين العراقيين في إلقاء التهمة جزافا على من يخالفهم الرأي .. بل وان اعتقادا يسود في اذهان اغلب العراقيين ان مشكلات العراق ستنتهي في حالة البقاء في اطار هذه العملية السياسية الجارية اليوم .. انني مع أي عملية سياسية جديدة تأخذ بحياة العراق ومستقبله ، ولكن ليس في خضم ظروف امنية سيئة للغاية ومعقدّة كالتي يعيشها العراق منذ سنوات .. ان العملية السياسية التي راهن ويراهن عليها اغلب العراقيين قد زادت من حدة الانقسامات وخصوصا عندما اقر الدستور العراقي برغم انف من خالفه .. وان من خالف الدستور اصبح يتهّم في الصميم بوطنيته وكأنه ليس من العراقيين .. علما أن الدستور هو قانون البلاد اذ لم يكن في يوم من الايام منشورا عاديا او بيانا سياسيا او برنامجا للاعلام .. انه مجموعة مبادئ تمثّل عقدا بين الدولة والمجتمع .. فلا يمكن ان تفرض دستورا لا يوافق عليه ملايين العراقيين .. ربما وافقت على الدستور مع الاخرين ولكنك بعملك هذا انما تقحم العراق في جحيم التاريخ !! لماذا ؟ لأنك اقحمت ما يتحّسس منه هذا او ما يعتب عليه فيه ذاك .. ان الدستور لابد ان يكون مدنيا للعراق ، وبعكسه فلا يمكن للعراق ان يجد الراحة والاستقرار البتة . انني اسأل كل المثقفين العراقيين الحقيقيين الذين يؤمنون بالتفكير المدني وبالحياة السياسية الحرة وبالقانون المدني وبالديمقراطية الواعية .. كيف يمكنكم الموافقة على كل الخطوات التي يقولون عنها انها تمثّل مضمون العملية السياسية وانتم تعرفون معرفة اليقين ان القيمين على هذه العملية لهم اجندة دينية او طائفية او مذهبية سنيّة او شيعية .. ؟؟ انني اعترف بأن للقوميات والاجناس حق الاختلاف ، ولكن كيف تمنحون الحق لاختلاف الطوائف ؟ في حين ان أي عملية سياسية مثل هذه وفي العراق بالذات ان لم تكن مدنية وسياسية حقيقية ، فانها ستسعى الى خراب العراق وتشرذمه وتقسمه ! واعتقد ان كثيرا من القراء كانوا يرصدون ما كنت قد نشرته في العام 2003 و 2004 و2005 عن هذا ”الموضوع “ وكم نادينا الاحزاب الدينية ان تتحّول الى احزاب سياسية وخصوصا في العراق كيلا يتحول العراق الى محرقة تأكل الاخضر واليابس بفعل العواطف الدينية والطائفية .. كم تمنيت ان يتنازل الغلاة والمتعصبون عن غلوهم من كلا الطرفين كما حدث في فرنسا وبلدان اوروبية اخرى بين الكاثوليك والبروتستانت .. ولكن .. لا جدوى ! السؤال : هل المشكلة في الطائفة ام التمييز الطائفي ؟ المشكلة في التمييز الطائفي وتأجيج الكراهية والاحقاد بين الطرفين الذين تعايشوا قروناً طوالاً بكل محبة والفة وتودد ورحمة .. انها في توظيف الناس (والعوام بالدرجة الاساس) واذا كانت في القواعد الشعبية بقدر ، فانها مشكلة اعظم لدى الساسة والمثقفين العراقيين الذين كانوا وما زالوا يعتبرون ان العملية السياسية صائبة ولا وجود لأي خلل او انحراف فيها .. كما انهم ما زالوا يعتقدون ان مشكلات العراق الحالية ليست الا مشكلة ارهابيين ومرتزقة .. وما زالوا يعتقدون ان ارادة الشعب هي التي قالت كلمتها .. كما انني استغرب من وجود مثقفين عراقيين بل ومختصين واكاديميين لا يقدمون أية استشارات حقيقية للقادة العراقيين الجدد الذين لهم علاقاتهم بهم ، وكأن الواقع السياسي في العراق لابد ان يحكمه الانقسام الديني والطائفي ! ماذا اقول ؟ ان العراق سيمضي من سيئ الى أسوأ في خضم البقاء في هذه الدوامة الصعبة التي لم يتنازل عن الاجندة أي طرف من الاطراف التي كان وجودها سببا في هذا الاحتدام .. لقد قال لي احد اقرب اصدقائي وهو مثقف اكاديمي معروف بأن دواء العراق هو التقسيم الى ثلاث دول .. ولا اعرف كيف يريد اقناعي بهذا الحل ليس لأن العراق سوف لن ينقسم ، بل لأن الانقسام سوف لا يعالج الواقع بقدر ما سيؤدي الى كارثة حقيقية لدويلات متشرذمة متصارعة .. فمصير كل جزء جغرافي من العراق هو بيد الجزء الاخر ، وان أي جزء من العراق لا يستطيع العيش لوحده ابدا ! واخيرا ! انني ادعو كل المثقفين العراقيين ان يوسّعوا من رؤيتهم للحياة ، فالحياة لا يمكن ان تبقى طائفية يتناهبها الطائفيون لهذا الطرف او ذاك وان يدركوا بأن تاريخ العراق الحضاري لم تصنعه أية عمليات سياسية عقيمة .. وان المثقف العراقي الحقيقي يرى نفسه مرسوما على كل شبر من ارض العراق .. واعتقد اعتقادا راسخا ان دعاة التقسيم مهما كثروا ، فهم قّّلة .. ولابد ان يدركوا ان تقسيم العراق سوف لا يحل مشكلات العراق الصعبة . وعلى من يسمّي نفسه مثقفا ان يبقى سياسيا عراقيا بلا طائفة ، وان يشارك بعضنا بعضا الطقوس والتقاليد الاجتماعية والدينية باعتزاز واحترام ومحبة. فمن يستجب منكم معي يا اعز الناس ؟
الصباح البغدادية
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …