لقد انتقل العرب فجأة أسوة بغيرهم من مجتمعات الدنيا إلى ثورات الإعلام والاتصالات والمعلومات التي فاجئت الدنيا مباشرة من دون أي استعداد لمثل هذا الفيض الهائل من تكنولوجيا المعلومات والأخبار والأحداث والأفكار .. في حين أنهم لم يمتلكوا الفلسفة والأداة والنهج في التعامل مع هكذا طفرة مفاجئة انفتح فيها العالم كله على بعضه الآخر.. ولم يعد هناك أي نفع لأي رقابة وطنية أو سياسية أو فكرية وأمنية ، فلقد دخل الإعلام المرئي وحلّت شبكة المعلومات الدولية في البيوت والمهاجع . ولعل من أهم ما خلقه تدفق الإعلاميات المعاصرة تبلور فوبيات لا حدود لها بفعل الخلط الفاضح بين الآراء التقليدية ووجهات النظر المتكلسة وبين المعلومات والحقائق الرقمية والعلمية .. كما وفضحت التكنولوجية الإعلامية المواقف والأحداث والشخوص من خلال النقل الحي والمواجهات المباشرة على الهواء.. وبالوقت الذي يستوجب استخدام الميديا المتطورة عربيا في إشاعة الحقائق وبث المعلومات وبناء الثقافة والرقي بالفنون والاعتناء بالفكر والوسائل التربوية .. راح الإعلام العربي ينساق لترسيخ الجمود وبث السذاجة وإشاعة الكراهية وتأييد الإرهاب !!
وعليه ، لا تلوموا أحوالكم عندما تنقلب كل الأمور وتجري التحولات بسرعة بالغة وانتم تشهدون اليوم فصول الأحداث أمامكم على شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد من دون أن تحركوا كل المألوفات وقد بقيت الأفكار القديمة في مثواها وهي فاعلة من دون التفكير بأهمية التحولات والتغيير وبعد أن تقطعت كل الأوهام وتبددت كل الأحلام اثر انقلاب المعادلات التي راهنت الأجيال الراحلة عليها . لقد انفضحت مأساة الأمة من خلال قوة الإعلاميات الصاعقة وثمة أناس مازالوا لا يدركون الاعتراف بذلك أبدا .. وتتوالد الفوبيات واحدة تلو أخرى عندما لا يقام أي وزن للجحيم الذي يثوى فيه ملايين المضطهدين في الدواخل والمهاجر .. أو أن تزداد الكراهية بين مجتمعاتنا والعالم بفعل سرعة المواجهات المباشرة بتأثير الميديا الصاعقة !
لقد ساعدت مستحدثات العصر على استفحال الظواهر المضادة في العالم كله وخصوصا على جانبي الأطلنطي ! فهل يمكن للعرب مثلا أن يندبوا حظهم العاثر على نهاية سقوط التاريخ الاحتفالي وهو ينتقل من جيل عربي يدّعي الفهم والثقافة ولكنه فشل فشلا ذريعا حتى في معرفة ذاته أو تعريف العالم بمشكلاته والانتقال من مخاطبة نفسه إلى مخاطبة الآخرين ، كما فشل حتى عندما يفضل الانهزام على الاستجابة .. وقد مضى الجيل الماضي إلى سبيله مخلفا بقايا إيديولوجيات لا يمكن تخيل ضررها ، وترك فراغا سياسيا هائلا لم يجد العرب حتى اليوم من يملأه أبدا .
إن مبادئ الأمة العربية أصبحت اليوم في خبر كان خصوصا عندما يتكلم الجميع شعوبا وحكومات ، ساسة ومثقفين باسم المصالح والشباب يبحث عن التفاهات في الإعلاميات المرئية ،وان لغة الغلو والتطرف والجهل والتفاهة هي التي تسود اليوم ، كما أن هناك وجبة ( خبراء ) مستعدة للإدلاء والحديث في الفضائيات في كل وقت ! ابعد كل هذا السيل الغادر من لعبة الجهالات العربية من يجابهني ويقول : نحن نتكلم إعلاميا باسم هذا العصر ؟
لقد باتت المادة الإعلامية أساسية جدا في التعامل بين طرفين مهمّين جدا : الحدث نفسه والمتلقي له . لقد كان – والحق يقال – لفضائيات عربية معينة دورها الرائد في متابعة الأحداث من مسارح الأحداث ومن استوديوهات المواقف ومن ارض المعارك المحتدمة وعبر مراسليها الشجعان الذين تنوعت رسائلهم واختلفت أساليبهم فضلا عن معاناتهم عندما احتجزوا في ارض القتال أو ذهبوا ضحايا الإرهاب ! وأود القول أيضا بأن ثمة برامج سياسية في قنوات فضائية يقدمها مذيعون معروفون اعتقد أن بعضهم كان ولم يزل يستخف لأكثر من مرة بعقلية المشاهد والمتلقي عندما يسأل أسئلة فجة أو عندما يحاول أن لا يسمع ذلك المشاهد أو يرى معلومات شفاهية أو مصورة حقيقية .. ولا ادري كيف كانت تلك الفضائيات العربية تختار من تستضيفهم على الهواء من أماكن عدة وهم مستعدون للإجابة على أي سؤال يوجّه إليهم ليغدو في الذاكرة الاجتماعية وقد ترسّخ بكل عواهنه ، إذ أن ما يقولونه مليء بالأخطاء الجغرافية والتاريخية والطبوغرافية واللغوية من دون أن يقع أي تصويب لتلك الأخطاء ، وهذه كارثة حقيقية من قبل الإعلام المعاصر على مجتمعاتنا .
ومن الملاحظات الأخرى، أن يكون مقدم البرنامج أو المذيع متسلحا بثقافة متواضعة عن موقع الحدث وعناصره في أسئلته وأجوبته على الأقل.. إذ تبين أن نقصا حادا في المعلومات عند البعض من أولئك المذيعين والمقدمين وخصوصا عندما يتهافت الناس إلى سماعهم وهم يضللونهم بأسئلتهم البليدة وتعليقاتهم الفجة وكأنهم يريدون تقليد الآخرين في محطات أجنبية أخرى.. ناهيكم عن سوء تصرف بعضهم في عدة من الفضائيات العربية بتدخلاتهم وإطلاق آرائهم الشخصية والسياسية في حين يستلزم من أي مقدم أو مذيع أن يكون أمينا وصادقا وفي منتهى الحيادية إذ ليس من شأنه إلا البحث عن المعلومة الصحيحة والحقيقية بعيدا عن توجهاته الراديكالية أو الدينية أو العرقية أو غيرها .
أتمنى على الفضائيات وكل الإعلاميات العربية التي نعرفها جميعا وهي تستقطب الناس واهتماماتهم أن تغير من خططها واستراتيجياتها التقليدية ، وان تبدل عناصرها تبديلا كاملا ، وعليها أن تعالج مثل هذه الهنات قبل فوات الأوان ولتبدأ نهجا تجديديا ومتطورا يساعد كل مجتمعاتنا على التحولات من اجل مستقبل بلا فوبيات . إن الزمن القادم ولما بعد 2009 سيشهد تحولات جذرية في التفكير وترسيخ الوعي والتأكيد على المعلومة لا على وجهة النظر.. وهنا سيجد عالمنا نفسه يندمج شيئا فشيئا مع العالم.
البيان الإماراتية 8 /3/ 2006
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …