كانت الليبرالية العراقية ولمّا تزل في مأزق منذ مئة سنة وكان الليبراليون العراقيون قد اضطهدوا في كل العهود التاريخية منذ عهد الدستورية الايرانية عام 1906 وعهد المشروطية العثمانية الثانية في العام 1909 وحتى اليوم وسيقفل قرن من الزمن ، والعراق يتخبّط في دوامة من بحر العواصف السياسية على أيدي أبنائه من دون أن يلجأ العراقيون ولو لمرة واحدة إلى الليبراليين كي يجسدوا أدوارهم الحقيقية في معالجة إمراض العراق وتناقضات مجتمعه .. لا أقول أن الليبراليين سيقدمون حلولا سحرية ، بل يمكنهم أن يلعبوا بأوراق يعجز غيرهم من اللعب بها وخصوصا في إدارة الأزمات التي لم يخلص منها العراق في أي عهد من العهود التي مّرت عليه ..
ربما كان الليبراليون من العراقيين القدماء في النصف الأول 1909 – 1959 أكثر حظا في أن يقدموا للعراق عدة مشروعات سياسية لم يفشلوا بها ولكن وقف ضدهم من وقف لإعاقة أدوارهم التي كانوا سيسلمونها إلى الجيل التالي الذي كان سيتسّلم المسؤولية منهم بالتقادم ، ولكن العراقيين لم يعرفوا كيف يعالجوا أمورهم في ما بينهم أبدا ، على عكس غيرهم من المجتمعات .. كان على العراقيين أن ينتظروا قليلا وما كانوا ليموتوا جوعا أو عطشا أو كمدا ، لكي تبدأ مطالباتهم بمشروعات اجتماعية كبرى إذ كان من الأسهل والأجدى آن يستحصلوا ما يريدون من الزعماء الليبراليين القدماء ، ولكنهم أبوا إلا أن ينساقوا وراء مدّ أهوج هنا وتيار فكري هناك وإيديولوجية مضادة بعيدة وإعلام قومي شوفيني قريب !
لقد كان عليهم حتى بعد مسيرتهم الثورية ضد المرحلة الملكية الدستورية سواء كانت مشروعة أم مزّيفة أن يلمّوا شملهم السياسي من خلال المشاركة وحتى المعارضة تحت قيادة الليبراليين الوطنيين ، ولكن وقف ضد الليبراليين العراقيين كل التيارات العسكرية والماركسية والقومية والبعثية والدينية .. وحتى ذلك الصراع بين الشيوعيين والبعثيين كان قد انتهى إلى التحالف وانضم إليهم الأكراد البارتيين .. فخلقت جبهة مزيفّة صفّق لها الجميع إلا الليبراليين .. ولم يكن للإسلاميين أي دور سياسي فعّال ومؤثر على الساحة العراقية حتى العام 1979 عندما غدت هذه الساحة اول من تأثر بتحولات ايران التاريخية ..
كان الليبراليون هم الذين دفعوا الثمن باهضا على أيدي التقدميين قوميين وماركسيين وكان الثمن غاليا متهمين إياهم بشتى النعوت من صفات الرجعيين والخونة والمتغربين والاستعماريين والأذناب .. الخ من النعوت التي لم تكذّبها أبدا كل أدبيات الجماعات التي ذكرتها .. واليوم ، يقع كل الليبراليين العراقيين من بقايا القدماء أو من المحدثين تحت سطوة الإسلاميين والطائفيين الذين يقف الليبراليون الحقيقيون ضدهم وخصوصا في العراق الذي تمزّقه الأحزاب والجماعات والميليشيات الدينية والطائفية والشوفينية .. والكل يعلم علم اليقين بأن الليبراليين سواء كانوا من العراقيين أو من غيرهم لم يمتلكوا في يوم من الأيام أية ميليشيات ولم يتبّعوا أي أسلوب دموي لإقصاء الآخر مهما كان فكره أو اتجاهه أو تياره مخالفا للحريات السياسية ..
فالعراق لن تحّل مشكلاته الاجتماعية والسياسية أبدا الا الممارسات الليبرالية التي تجعل الجميع في إطار وطني موّحد من دون أي نزعات تستقطبه إيديولوجيات أو عقائد أو مذاهب أو طوائف أو مرجعيات أو قوميات أو هيئات دينية .. الخ لقد انفتحت الأبواب اليوم أمام الجميع ليغدوا في سلة واحدة تعمل من اجل العراق وهي سلة ليبرالية صرفة بدخول أعداء الليبرالية الأوائل من الشيوعيين والقوميين والإسلاميين .. الذين تبّين لهم بأن لا سبيل لمعالجة مخاطر العراق إلا في أجواء ليبرالية صرفة تنتفي فيها التشظّيات والهويات والطوائف السياسية ..
لقد تبلورت قناعات جديدة اليوم ومنذ سقوط الكتلة الاشتراكية منذ بدايات التسعينيات في نهايات القرن العشرين ، لكي تغدو الليبرالية الجديدة علاجا واقيا لا أقول سحريا ، بل هو الأفضل اليوم لمعالجة مخاطر تعانيها عدة دول ومجتمعات تزدحم فيها التكوينات والألوان والأطياف .. وخصوصا في العراق الذي أجده اليوم بأمس الحاجة إلى القوى الليبرالية كي تفرز قيادات جديدة هّمها الأول العملية السياسية لمعالجة انشقاقات المجتمع وتناقضاته التي أفرزت بعد سقوط الدكتاتورية تشظيات وانقسامات لا يمكن تخيلها ابدا .. ناهيكم عن أن الليبرالية ستنّقي الطبقة السياسية العراقية من كل الطارئين على العمل السياسي من غير كفاءة ولا نزاهة ولا صفحة تاريخية شخصية نقية .. واغلب الذين وجدوا أنفسهم فجأة على رأس العراق وهم من دون أي آليات براغماتية ولا أي ممكنات سياسية ولا أي معارف تاريخية وثقافية .. ولا أي علم بالعراق وبمجتمع العراق وبجغرافية العراق .. وهم يتخبطون من اجل مصالحهم لا من اجل مصلحة العراق العليا .. إنهم يقبلون السكوت على كل الخطايا التي ترتكب بحق العراق والعراقيين ..
وهنا لابد لي أن أقول بأن الليبراليين كانوا متهمين على امتداد مئة سنة أنهم أعوان الاستعمار وذيول الرجعية .. علما بأنهم كانوا الأقدر والأكفأ والأنشط في سبيل تحقيق ما يمكن تحقيقه والحصول عليه من المستعمر .. في حين بدا لنا أن ( الاستعمار ) – بلغة التقدميين والإسلاميين – هو الذي يدعم اليوم الحكومات الدينية ويساهم في ارتقاء الإسلاميين إلى قيادات بعض الدول في العالمين العربي والإسلامي .. بل ونجد أن الليبراليين القدماء والجدد قد غابوا وقد همّشوا ولم يعد لهم دور فّعال أبدا .
إن التحولات التاريخية التي تمر بالعراق اليوم والتي تتأثر بها المنطقة عموما ستأخذ أوطاننا إلى حيث التمزّق والتشتت ، وستأخذ مجتمعاتنا إلى حيث المزيد من التخّلف والتبلد .. وستأخذ أجيالنا القادمة إلى حيث النكوص والتراجع . لقد أثبتت الوقائع اليوم أن الأحزاب الدينية والطائفية والعقائدية والشوفينية لا تنفع العراق أبدا ، بل أنها ساهمت وتساهم في تمزّقه وتخلفّه وبدائيته .. ولم يكن هذا هو حلم العراقيين أبدا .. ونخشى أن يموت هذا الحلم عندما يستبد المتخلفون في الحكم وهم يمارسون السلطة ويتكالبون عليها مستخدمين كل الآليات الليبرالية وهم يسحقون الليبراليين إذ يدركون أن لا وجود لهم عندما يمارس الليبراليون العراقيون الحقيقيون دورهم في بناء العراق . فما هو العلاج الذي يمكن استخدامه من قبل الليبراليين العراقيين الذين يتنساهم هذا العالم ؟ هذا ما سأحلله في مقال قادم بحول الله .
الجريدة، 5 مارس 2006
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …