تتحدد مشكلة التراث عند العرب المحدثين في دراسته وتدريسه، ثم في فهمه واخراجه ليساهم في رفد الحاضر بنواح كثيرة، ذلك ان المجتمع العربي (والمجتمعات الاسلامية) سيبقي دائما بحاجة الي تراثه المتنوع، فرغم عظمة هذا التراث وتنوعه وركامه، الا انه لم يزل غير متكامل في دراسته وتحقيقه وتجريبه والتعلم منه للمزيد من الخبرات علي الوجه الافضل، وذلك في علم ثقافتنا العربية الحديثة. لقد شهد النصف الاول من القرن العشرين حركة فكرية عربية جادة في دراسة التراث العربي علي درجة من الرصانة والعلمية، واذا كانت تحقيقات التراث العربي لم تصل حتي يومنا هذا الي درجة من العلمية والكفاءة الا ان الفكر العربي ــ حينذاك ــ قد ازدهر علي ايدي اصحابه من ابناء العربية، وذلك في ميادين الادب والفلسفة واللغة والتاريخ والنقد الادبي، وجاءت الاستفادة والنجاح من خلال المزاوجة الرصينة بين القديم والجديد، ولم يكن ذلك بالامر الهين ليتم الازدهار، اذ توفر له احد أهم الشروط وهو السيطرة علي مادة كل من القديم والجديد، وعليه، فقد زخرت الفترة المعنية بنشاطات عديدة لرجال اغنوا المكتبة العربية بتحقيقاتهم ومعارفهم لاعمال حية وصعبة ومفيدة من التراث العربي الذي اعتبروا سدنته امتدوا بثقافتهم المعاصرة مع جذوره المتنوعة.
ثنائية الماضي والحاضر
وفي تلك الفترة التي تمتعت طبيعتها الفكرية بمزايا تخالف ما يتصف به واقعنا الفكري المأزوم هذه الايام، لم يكن الاحتراب واضحاً وبيناً بين ثنائية ولدت في النصف الثاني من القرن العشرين شكلوها تحت مسميات: التراث والمعاصرة، او التقليدية والتغريب او الاصالة والتحديث.. كما هو ظاهر للعيان اليوم تفكير العرب والمسلمين في اعلاناته وشعاراته، او انه يعمل تحت الارض سرا وبخفاء دفين، او كالجمر الاحمر تحت الرماد.. وهذا هو حال حاضرنا الفكري العربي المعاصر، اننا اليوم لا نتعامل مع التراث والجذور الاصيلة تعاملاً علمياً او حيوياً مجرداً من كل نوازع الادلجة والسياسات الجديدة.. لقد حدث انفصام فكري اليوم بين الاثنين، ذلك ان جيل اليوم بتياريه المتصادمين يري ان تراثه منفصل عن حياة الحاضر المعاصر، وتراكيبه الفكرية وموازينه، وان كلا من الطرفين يري في المسألة التراثية: إما اجهاضا للتقدم والتحضر، نظرا لعقم هذا التراث كونه جاءنا من الماضي السحيق (كذا) واما انه المنقذ الوحيد للأمة ومن كل ما علق بها من ادران وبدع، هكذا. فان كلا من الطرفين علي وهم حقيقي فكري وسياسي بالدرجة الاولي، ذلك الوهم الذي خلقته السياسات العربية التي آمنت بالثنائيات والتحيزات والانغلاقات. ان كلا من الطرفين بدأ وكأنه ينظر الي التراث، وقد انعزل عنه عن كره، او سوء فهم، او جهل، أو ضعف قراءة، أو لا مبالاة قاتلة. في حين ان التراث العربي والاسلامي مدرسة حقيقية يمكن الاستفادة منه في بناء المستقبل.
ان الخلل والاخطاء في احياء التراث العربي ــ الاسلامي، والتعامل مع الجذور بعلم ودقة ومن دون تحيز، ثم العجز في توظيفه وتكريسه لخدمة الحاضر، جعل جيل اليوم من المهتمين به، والقارئين له، لا يجدون غير التفاخر به، وتقليب صفحات كنوزه من دون فهمه وادراك ما يحتوي عليه ووضعه في المكان اللائق الذي ينبغي وضعه فيه امام العالم كله، ومن خلال دراسته وفحصه والتوقف عنده مليا، اذ انه يحتوي وفي شتي ميادين المعرفة علي آلاف الظواهر التي تستحق الاهتمام والوقوف عند كل كلمة وجملة وفقرة، وفي شتي الميادين التي كتب تراثنا فيها: الادب، النقد، العلوم، المنطق، الفقه، المقامة، علم الكلام، التاريخ، الجغرافية، المذاهب، الفلك، الموسيقي، الفلسفة، الترجمة وعلم الحيل والميكانيك.. الخ، فلم يزل الحاضر يجهل عوالم ما كتبه العديد من الرجال القدماء فناً وعلماً رغم العديد من الدراسات والكتابات التي كتبت عنهم وعن اعمالهم ومعطياتهم.
المثقف العربي ازاء تراثه
ان المثقف العربي ــ اليوم ــ يستهويه ان يقتني مثلا، عدداً كبيراً من كتب التراث العربي، ولكن لنتساءل: الي اي درجة يستطيع هذا المثقف ان يتوفق في فحص ما اقتناه بدقة وموضوعية وتركيز؟ قد يقف قليلا عند أمهات مأثورات العرب المسلمين خلال القرن الرابع الهجري، ليقرأ طويلا ولكن ليس باستطاعته ان يشرح لنا شفويا وعلي درجة عالية من التفكير العلمي ما قرأه بطريقة نقدية محكمة. ولئن وقف العديد من الدارسين العرب المحدثين عند كثير من مأثورات القرون الهجرية الاولي ــ مثلا ــ فانه من المستبعد وقوفهم عند مأثورات حية اخري انجبتها قرون اخري، تلك المأثورات المهمة التي ساهمت ــ هي الاخري ــ في التطور الحضاري عند العرب والمسلمين! وهذا كله، نتيجة واضحة لعلة مزمنة في الفكر العربي الحديث، تكمن في تركيز اغلب الدراسات والتخصصيات والآراء العلمية حول تراث العرب في عصر ازدهارهم، ولم يهتم الدارسون والعلماء العرب اهتماماً جدياً وكافياً ومعقولاً بالاحقاب الاخري ومأثوراتها الغزيرة، اي ان العرب، ــ وأقصد العشرات من المثقفين العرب ــ ينظرون الي تراثهم نظرة متجزئة تحددها الفواصل الزمنية التاريخية والسياسية، والتي عاش وتطور من خلالها، صحيح هو أمره، عندما كان زاهراً راقياً متنوعاً خلال عصر التدوين والقرون المتوهجة الاولي ــ مثلاً ــ وانه عاش تقليديا فارغا ــ كما يصفونه ــ خلال الاحقاب الاخيرة، الا اننا لا يمكننا البتة من تجزئته، وطبعه بالسمات السياسية التي امتاز بها كل عصر من العصور. بدون شك، ان الظروف التاريخية المختلفة قد اثرت فيه، وفي معطياته، الا انه بقي وحدة حية متواصلة غير منقطعة عن الجذور الاولي، بل انه تطور وتبلور في احاديته الواحدة الموحدة من خلال: وحدة المجتمع العربي التاريخية الطويلة، ووحدة اللغة العربية الراقية، ووحدة الثقافة الاسلامية، وآحادية الأساليب التربوية والتكوينية والتثقيفية في عالمهم الشاسع.
الاسقاطات العربية المعاصرة
اعتقد أن اكبر جناية يمارسها العرب اليوم تجاه تراثهم، ليس فقط بما يتمثل في عدم الاهتمام به او فهمه فحسب، بل سحبه من مواقعه التي عاش فيها ليفسر كل كما يحلو لمفسره اليوم، هذا الذي يعيش جميع متناقضات ايامنا المتداخلة والمفككة المعاصرة.. ومن جملة الاخطاء التي تمارس بحق الرجال القدماء من العلماء والفقهاء والأدباء.. من العرب والمسلمين الذين عاشوا قبل مئات السنين انهم ما كانوا يعرفون خريطة العرب السياسية المعاصرة.. التي انتجتها القوي العالمية في القرن العشرين! لقد كانت بلادهم واحدة، وارضهم واحدة، يولدون في مدينة، ويرضعون في اخري، ثم يتربون في مدينة بعيدة، ويقرأون ويدرسون ويتعلمون في أخري، وهكذا، نجدهم يموتون في مدينة قاصية.. اذن ما معني خصام ابناء البلاد العربية والاسلامية اليوم؟ يقول بعضهم عن احد العظماء انه عراقي، فيجيب اخرون: بل هو سوري، وعن آخر، كان من تونس، فيصيح البعض من هناك: بل انه جزائري.. وهلم جرا.
ويبقي انه اغزر تراث كتابي في هذا الوجود!
صعب ان تجد البلاد العربية اليوم لها مفاخر وتقاليد اصيلة.. تسحبها هذه، وتدفعها تلك، وتكرسها الاخري علي حساب رصيفتها، ان مفاخر العرب وتقاليدهم وآثارهم ومأثوراتهم واحدة، وكانت قد اندمجت في كتلة ثقافية واحدة يشكله اليوم ما يعرف بعالم المسلمين الكبير. وعلي الجيل العربي المعاصر ان يصحح نظرته للتراث، ويعمل علي تقييمه من خلال دراسته واستيعابه وفهمه من الناحية العلمية، وإلا يصبح منقطع الجذور، معدوم الاسبقيات، هزيل اللغة، ضائعاً تائهاً في زحمة الافكار المعاصرة التي لم يستطع ابدا السيطرة عليها، وتحقيق ذاته وامانيه من خلالها.. وعليه ان يدرك بانه الوحيد الذي يمتلك اعظم تراث كتابي علي وجه الارض، ولكن ليعلم من طرف آخر، انه لا يمكن لأي مخلوق مثقف في وجود اليوم، ان يبتعد أبدا عن حياة العصر ومنتجاته وادبياته وفلسفاته وكل ركاماته المعرفية، وإلا تحجر وأصبح من المتخلفين عن ركب هذا العالم المتغير.
* المصدر:الزمان/21/7/2002م
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …