لم يزل بيت شعر الرصافي ساري المفعول حتى اليوم ، فهل من شرعية حقيقية لأهم ثلاث مقوّمات في حياة العرب ؟
علم ودستور ومجلس أمة كلّ عن المعنى الصحيح محّرف
لم يعر أحدا تصريحات السيد مسعود البارزاني في كردستان العراق اي اهمية عندما سئل قبل أيّام : لماذا لا ترفع فوق رأسك علم العراق ؟ أجاب : انني لا استطيع ان اجلس تحت علم يذكرني بكل المآسي في وطني ! وقال : ليس لدي مانع من استعادة علم المملكة العراقية الاول او علم الجمهورية العراقية الاول .. وربما يعجب المرء عندما يسمع مثل هذا القول الذي لم يدهشني ابدا عندما سمعته ، ولكن الحكاية لها دلالات أعمق ربما لا يحس بها البعض من ابناء الجيل الجديد الذي لم يعد يهتم برموزه الوطنية اصلا ليس لعلم عراقي مستعار من الاخرين منذ اربعين سنة ، ولكن لأن هناك من لم يعد يحترم الرايات العربية .. اذ يكفي ما حدث في بغداد مؤخرا عندما مرّغ العراقيون لأول مرة علم الاردن ، وهو علم عربي قديم .. واحرقوه تحت الاقدام ضمن الازمة التي تصاعدت ليس بين الحكومتين بل بين الشعبين ، وتصل الامور لأول مرة الى هذا الحد وكأنهم يحرقون عدوا لهم ، وفي ذلك دلالات خطيرة .
لقد ذكّرني ذاك القول وهذا الحدث ببعض المقالات التي كنت نشرتها منذ سنتين ، والتي عالجت فيها علم العراق ووجوب شرعيته كونه أهم الرموز التي يستوجب الاعتزاز بها .. واذكر انني طالبت وقت ذاك بأن يرجع ابناء العراق الى واحد من العلمين الشرعيين : علم المملكة العراقية القديم للعام 1921 او علم الجمهورية العراقية الجديد للعام 1958 ويختاروا واحدا منهما ما داموا قد الغوا النشيد الوطني وعادوا الى نشيدهم الشرعي القديم الذي تربينا عليه : ( موطني موطني ) أن العلم العراقي الحالي الذي هو في الاصل علم الجمهورية العربية المتحدة ( أي : علم الوحدة المصرية السورية 1958-1961 ) لا يمت للعراق بأي صلة ..
واذكر انني تحدّثت عن اعتزاز كل الشعوب باعلامها الوطنية التي تعتبرها رموزا مقدّسة باستثناء العرب في القرن العشرين ، ولا اقصد كل العرب بل اقصد ما حلّ بجمهوريات الانقلابات العسكرية العربية اذ غّير كلّ من علم البلاد والنشيد الوطني عدة مرات .. في الحقيقة ، بدأ ذلك الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ليغّير علم مصر ونشيد مصر الوطني ، ولحقت به سوريا ولحق بهما العراق بعد ان كان الزعيم عبد الكريم قاسم قد غّير علم مملكة العراق الى علم جديد أحبّه العراقيون مع شعار جديد ، ولما جاء عبد السلام عارف لحكم العراق الغى ذلك واستعار من الجمهورية العربية المتحدة المنحلّة بعد الانفصال علمها ونشيدها الوطني ( والله زمن يا سلاحي ) وحتى شعارها النسر الاصفر كما كانت سوريا قد فعلت ، واذا بقي علم مصر وسوريا بنجمتين ، فان العراق اضاف نجمة ثالثة على اساس ان الوحدة ثلاثية بين ( الاقطار العربية الثلاث ) !
ولم يزل العلم يرفرف في كل من سوريا والعراق ولكن اضاف الرئيس السابق صدام حسين بخط يده كلمتي ( الله واكبر ) ايام الحرب مع ايران ! وغّير صدام النشيد الوطني ليلغي ( والله زمن يا سلاحي ) الى نشيد آخر كتب كلماته الشاعر شفيق الكمالي الذي قتله صدام ، ولحن النشيد الفنان اللبناني وليد غلمية .. ولما سقط صدام ، اجتمع مجلس الحكم بعد أشهر ليكلف احد الفنانين المعماريين العراقيين بعلم جديد ، وفعلا اصدر المجلس ( الموّقر ) قرارا بالكف عن استخدام العلم القديم الذي يرمز الى مرحلة صدام حسين ، واقروا علما لا علاقة له بروح العراق .. مما سّبب ضجّة كبرى بين العراقيين ساسة ومثقفين ، وقد كتبت اعتراضا وقت ذاك طالب الجميع بالغاء العمل بالعلم الجديد الذي وصف بأنه قريب الشبه بعلم اسرائيل ! ولم تكن تلك الحركة سابقة خطيرة ، فالعرب في جمهورياتهم العسكرية الانقلابية قد سبقوا غيرهم في تبديل رموزهم حسب امزجتهم وطبائعهم !
عندما نراقب غير العراق ، نلحظ بأن مصر لم تبق على علمها ونشيدها ، اذ قام الرئيس انور السادات بتغيير العلم ليصبح كما هو يرفرف اليوم وغّير النشيد الوطني الى نشيد ( بلادي بلادي ) الشهير للفنان القدير سّيد درويش . واذا كان هذا حال الجمهوريات العربيات الثلاث ، فالامر سّيان في ليبيا والسودان واليمن ، باستثناء الجزائر التي احترمت نفسها وابقت على علمها الوطني الذي ضّحى من اجله مليون شهيد ، كما وحافظت على نشيدها الوطني !
علينا ان نسأل انفسنا نحن العرب وخصوصا نحن الذين تربينا في الجمهوريات الانقلابية العسكرية : ما الذي يجعل الرؤساء والزعماء العرب يمنحون الحق لأنفسهم بالاسراع في تغيير رموز البلاد الوطنية المقّسة ، فمثل هذه الرموز الوطنية هي ملكا للبلاد وليس ملكا لزعيم مزاجي الطبع ولا لنظام سياسي معّين ، ولا حتى لدولة ومؤسسات ، فكلها ترحل وتبقى البلاد واحدة والرموز ثابتة وراسخة ومقدّسة .. اننا اذا راقبنا رموز شعوب اخرى في كل هذا العالم ، فاننا نلحظ بأن علم البلاد والنشيد الوطني هما من اثمن ما تمتلكه الشعوب وفي سبيلهما وفي سبيل اعلاء خفقانهما تراق دماء وتتوقف الحياة كل اسبوع في تحية هذا الرمز ..
لقد تربينا منذ الصغر في مجتمعات عربية وطنية لها تقاليدها الرائعة ، اذ كانوا يعلموننا منذ صغرنا قيمة علم البلاد والوقوف في صباح كل خميس ثابتين لدقائق معدودة لا نتحرك عندما يرفع العلم وفريق من الكشافة يحيط به وهم يلقون بتحيتهم اليه .. علمونا بأن خدمة العلم واجب على كل مواطن تلده ارضه من اجل ان يدافع عنها وعن سيادتها واستقلالها .. علمونا كيف نحفظ على ظهر قلب نشيدنا الوطني ( موطني .. موطني ) ..
كم من الاجدى للعرب الذين ورثوا بقايا الجمهوريات العسكرية العربية لو استعادوا كافة رموزهم الوطنية القديمة التي كانت تحظى بالشرعية التاريخية ، ويعترفوا بأن استعادة الرموز القديمة خير من البقاء مرتهنين لماض عقيم في ظل رموز مزّورة لا اساس لها من اي شرعية ! كم من الاجدى للعراق والعراقيين ان يبدأوا هذه الخطوة التي ستعيد شرعية رموز العراق سواء كانت الملكية او الجمهورية ، علما بأن الرموز الجمهورية قد غدت تاريخية لتعّلق ملايين الناس بها من الاحياء ولأن موحياتها تدّل دلالة حقيقية على العراق بلاد الشمس . انني اقترح على الحكومة العراقية الجديدة ان تعالج كل رموز العراق الوطنية المعنوية بطريقة ذكية بارجاع الشرعية الى رموز العراق وان يتزامن ذلك مع ولادة الدستور العراقي الثابت الذي ينتظره الجميع . عند ذاك لم يستطع الاخ مسعود الا قبول علم عراقي استعاد حياته من جديد .. فهل يقدم العرب على مثل هذه الخطوة من اجل ترسيخ نزعة وطنية قوية ستعالج هذه المرحلة الخطيرة التي تمر بها المنطقة كلها ؟؟ واتمنى من صميم القلب ان تستعيد كل الجمهوريات العربية العسكرية رموزها الوطنية لتقف شامخة خفاقة الى جنب بقية الاعلام العربية الجميلة التي كانت ولم تزل يحترمها الجميع ، امثال : علم لبنان والجزائر والامارات والمغرب وتونس وعمان والكويت وغيرها . هذا ما نأمل حصوله في قابل الايام .
النهار البيروتية 8 ابريل 2005
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …